أنا المصري وأباطيل الأفروسنتريزم

كانت أبيات بيرم التونسي التي تغنى بها سيد درويش تثير في نفسي منذ الصغر وحتى اليوم مشاعر الهوية والانتماء لمصر (أم الدنيا) كما يقولون. تقول الأبيات التي تجمع كل معاني الوطنية المصرية : أنا المصري كريـــم العنصـرين بنيــت المجـــد بيــن الأهرامين جدودي أنشــأوا العلـــم العجيــب ومجرى النيل في الوادي الخصيب..لهــم في الدنيـــا آلاف الســــــنين ويفــنى الكـــــون وهم موجــــودين. فماذا حدث لنا ؟ هل تتأثر هويتنا الجامعة بمجموعة من أنصاف المتعلمين الذين استخدموا وسائل التواصل الاجتماعي وأصبحوا هم الأعلى صوتا وتأثيرا ومشاهدة ؟ انتابني العجب حينما طرحت قضية فيلم كليوباترا ومن قبله المغني كيفين هارت الذي ادعى بأن أجداده بنوا الأهرامات.

كان رد الفعل هو عكس مقولة المصري كريم العنصرين حتى أن البعض تطوع بالقول بان مصر ليست أفريقية من الأساس. ألم تنتشر صورة امرأة حسناء ناصعة البياض لتؤكد أن التحليل الجيني أثبت انها مصرية الأصل 100% . وعلى الرغم مما يفتقده هذا القول من عوار علمي واضح فكيف لشخص مثلي قمحي اللون أو لمن هم في لون محمد نجيب وأنور السادات التفاخر بالقول أنا المصري كريم العنصرين. وهو القول الذي يعترف بعبقرية الجغرافيا السياسية والاجتماعية لمصر المحروسة بما يشتمل عليه ذلك الوصف من تعددية ثقافية وحضارية.

مهلا أيها السادة لا تندفعوا وراء أهواء وترهات الأفروسنتريزم وتمارسوا نفس خطاب الاقصاء ونفي الآخر . كما لا ينبغي الخلط بين الأفروسنتريزم كحركة فكرية وسياسية حديثة والفكر الأسود عموما. دعونا ننظر في بعض نماذج الأفروسنتريزم كمحاولة للفهم . كان هناك جدل يدور حول أصل الأشخاص البيض على أنهم “نسل متحور مرض البهاق” لآباء أفارقة ذوي بشرة سوداء رفضوا الاعتراف بهم. تخيل معي ذلك في عام 1990 طرحت الدكتورة فرانسيس كريس ويلشينج ، مؤلفة أوراق إيزيس ، هذه الفكرة التي لاقت رواجا كبيرا في دوائر الأفريكان امريكانز كوسيلة لإعادة تفسير تاريخ العالم وتحدي المفاهيم السائدة للتسلسل الهرمي العرقي وتفوق البيض.

وفقًا لويلشينج ، ظهر الأشخاص البيض نتيجة لطفرة جينية بين السكان السود. نتج عن هذه الطفرة وجود أفراد يعانون من شحوب في الجلد ، وهو ما يعادل البهاق. ونتيجة لذلك قرر الآباء الأفارقة ذوي البشرة السوداء ، الذين شعروا بالخزي تجاه نسلهم ذوي البشرة الشاحبة ، بطردهم وعدم الاعتراف بهم. تجادل ويلشينج بأن هؤلاء “الممسوخين” هاجروا في النهاية شمالًا هربًا من الشمس الاستوائية الحارقة واستقروا في النهاية في أوروبا. تقول االدكتوره فرانسيس إنه بمجرد وصولهم إلى أوروبا ، كرس هؤلاء المتحولون البيض أنفسهم لتأسيس نظام من التفوق والهيمنة للبيض. هذا السرد يصنف الأشخاص البيض على أنهم معيبون بطبيعتهم ومدفوعون بإحساس عميق الجذور بالاستياء تجاه أصولهم الأفريقية. من خلال تصوير الأشخاص البيض على أنهم “النسل” الأدنى لأفريقيا ، تهدف ويلشينج إلى تسليط الضوء على الإنجازات التاريخية والثقافية للسود والتأكيد على أمجاد إفريقيا القديمة.

تجد الحجة التي طرحتها ويلشينج مكانها ضمن تقليد أوسع للفكر الأمريكي الأفريقي الذي يسعى إلى تحدي السرديات السائدة حول تفوق البيض ودونية السود. عبر التاريخ ، صاغ الكتاب والمفكرون الأمريكيون من أصل أفريقي حججًا مماثلة تؤكد على الأصول والإنجازات والمساهمات القديمة للعرق الأسود أثناء التشكيك في مزاعم التفوق الأبيض وتقويضها.من خلال التأكيد على أن السود هم “آباء الأسرة البشرية بأكملها” ، تهدف ويلشينج إلى استعادة الشعور بالفخر من أصلها الأفريقي. إنها تسعى لمواجهة محو وتهميش تاريخ وثقافة السود من خلال تسليط الضوء على دور أفريقيا باعتبارها مهد الجنس البشري ومركز التقدم البشري المبكر.

من المهم أن نلاحظ أن حجة ويلشينج ليست مقبولة عالميًا وواجهت انتقادات من جهات مختلفة. يجادل النقاد بأن نظريتها تفتقر إلى الأدلة العلمية وتعتمد بشكل كبير على التفسيرات التأملية للتاريخ. ومع ذلك ، فإن عملها والتقليد الأكبر للفكر الأمريكي الأفريقي الذي يتوافق معه قد خدم كروايات مضادة مهمة لتحدي ومناقشة المفاهيم السائدة للتسلسل الهرمي العرقي وتفوق البيض.

هذا المثال يسلط الضوء على أن الحركة المركزية الأفريقية قد اكتسبت زخمًا في السنوات الأخيرة ، وأصبحت صناعة مزدهرة لدى المكتبات السوداء. وقد ظهرت شخصيات بارزة من أصل أفريقي مثل الدكتور فرانسيس كريس ويلشينج ومولانا كارينجا وموليفي كيتي أسانتي وساهمت في نشر الفكر الأفريقي. الأفكار المرتبطة بالنزعة المركزية الأفريقية لا توجد فقط في الأعمال المكتوبة ولكن أيضًا في الأعمال الفنية المسموعة والمرئية مثل تسجيلات موسيقى الراب.

في حين أن بعض الكتاب ينظرون إلى الأفروسنتريزم باعتبارها تقليدًا أفريقيًا أمريكيًا متأصلًا على أساس الموضوعات التاريخية السائدة منذ القرن الثامن عشر ، فإننا نؤكد على ضرورة أن فهم أصولها يتطلب النظر في السياق التاريخي والتسلسل الزمني المحدد. إن المركزية الأفريقية لا ينبغي وضعها بشكل عشوائي في تقليد أوسع للفكر الأسود ، بل يجب فحصها كموقف نظري متميز وصريح مع تاريخها المحدد.

وفي الختام أشير إلى خطاب ثابو مبيكي الأشهر بعنوان أنا أفريقي وقد ألحقت ترجمته في كتابنا عن جيفارا الأفريقي. يقول : أنا مدين بكياني إلى خوي وسان… إنني أنتسب إلى مهاجرين تركوا أوروبا بحثا عن منزل جديد في أرض الوطن . تجري في عروقي دماء عبيد الملايو الذين جاءوا من الشرق. لقد تشكل عقلي وفكري من خلال الانتصاراتالتي هي بمثابة جواهر تاجنا الأفريقي ، الانتصارات التي كسبناها من ايزندالونا إلى الخرطوم ، سواء باعتبارنا أثيوبيين أو أشانتي في غانا أو باعتبارنا بربر الصحراء.

وعليه ارفع رأسك يا أخي وقل أنا مصري كريم العنصرين فمصر التاريخ والحضارة تجمع ولا تقصي أحدا فهي تعلو ولا يعلو عليها. إنها في لحظات البطولة التاريخية لم تنسى دورها في الدفاع عن حرية أشقائها في ربوع القارة المختلفة شرقا وغربا وجنوبا . ولو أردتم فاسألوا إن شئتم أبناء نكروما ولومومبا وماندلا بما في ذلك أحفاد هيلاسلاسي.