عمرو سمبل يكتب رحلة قطار

ينادى المنادى على رحلة القطار المتجه الى الأسكندرية ..يهرع الركاب حاملين أمتعتهم الى القطار..النظام مفقود..الفوضى تعم المكان.كل الركاب يريدون الجلوس بجانب الشباك ..تعلو اصوات البعض بالضجيج المعتاد..
يصعد قائد القطار فى خيلاء وغرور ومهابة مصطنعة الى كابينة القيادة , يرمق القطار بنظرة اشمئزاز غريبة… هل مل القيادة ؟؟.
هل يريد أن يترقى فى عمله فيقود طائرة بدلا من هذا القطار المتهالك.؟ هو نفسه كان قائد سيارة من طراز قديم فى هيئة السكك الحديدية فترقى ليصبح قائد قطار بما انه لديه خبرة فى القياده تعدت عشرين عاما..ليس مهما اذا كانت خبرته هذه فى قيادة السيارات او حتى عربات الحنطور..فالقياده فى الشرق لا تفًرق بين تلك الأشياء..يجلس قائد القطار كما يجلس الشاه على عرش الطاووس..يرشف قليلا من كوب الشاى الذى احضره مساعده..ثم يطلق القطار سارينه طويلة معلنا بداية الرحلة..
الركاب يغنون ويرقصون وكأننا فى عرس فى حارة شعبيه..يتبارى فيها كل من له موهبة او لا فى اظهار ما لديه من مهارات..تمخض ذلك عن بروز اثنين بعينهما يقودون موجات الغناء والرقص ..ويتحكمون فى رتم ألات الأيقاع المعروفة فى مصر…انصاع الركاب بحكم العادة …طالما كانت الأغانى تروق لهم..وتمنيهم برحلة هنية…
فجأة شاهد شاب لافته عجيبة مكتوب عليها ( بنى سويف) فرك الشاب فى عينيه..غير مصدق..ما الذى أتى بتلك اللافته هنا ؟…هل ضللنا الطريق ؟..ذهب الى احد قادة مواكب الرقص والغناء وحدثه بما رأى…زمجر الرجل الخمسينى فى وجه الشاب ونهره وكاد ان يتعدى عليه بالضرب..( بنى سويف ايه يا مجنون. انا رايحين اسكندرية ) بعض الركاب خلصوه من يديه بصعوبة معتذرين بانه ضعيف البصر رغم ان بعضهم كان قد رأى الافته بأم عينيه ولكنه لم يجرؤ أحد على الحديث خاصة بعد ان شاهدوا ما حدث للشاب المسكين.
تستمر الرحلة..يسير القطار بلا توقف., نفس مواكب الرقص والطبل والزمز مستمرة..والصخب يتعالى تدريجيا..وفجأة رأى الشاب لافته مكتوب عليها ( محطة المنيا)..صاح الشاب فيمن يجلس بجواره ( أهو..شوفوا بعيونكم مكتوب المنيا- القطر مش رايح اسكندرية ولا حاجه..احنا فى طريق الصعيد)
فجأة يظهر مرة اخرى الرجل الخمسينى قائد موكب الرقص والتهليل فصاح فى الشاب..(انت تانى…إحنا لازم نسلمك لأقرب مستشفى مجانين) ..بعض الركاب رؤا ايضا لافته المنيا..وعلا صوتهم..هنا اشار الرجل الخمسينى بطرف عينيه لزميله قائد فرق الغناء والرقص…ارتفعت صوت الغناء مرة اخرى ولكن بدرجه لا تحتمل….وتمايل الركاب يمينا ويسارا مع ظهور بعض الراقصات الاتى يرتدين بدلة رقص كاملة , التف حولهم معظم الركاب..وعلا صوت الدربوكة الشرقية العتيقة..وخفتت معها الاصوات التى كانت تشكك فى وجهة رحلة القطار..أو اختفت.
طال زمن الرحلة…فمن المعتاد ان رحلة القطار الى الأسكندرية لا تطول اكثر من ساعتين..او على الأكثر ساعتين ونصف الوقت يجرى ..اربعة ساعات كاملة ولم يصل القطار الى وجهته الإفتراضية..والركاب المتمايلون مع الأغانى..لم يفكر احد منهم ان ينظر فى ساعته ليعرف ان القطار تحرك منذ أربع ساعات..ولازالت رحلته مستمرة..كان الشاب قد تمكنمن جمع بعض الرجال الين لأاحظوا معه اللافتة المكتوب عليها ( بنى سويف) الشاب ولفت انظارهم الى ان القطار قد تحرك منذ اربعة ساعات..فلا وصل الى الأسكندرية ولا توقف.فى اى محطة ولا هدأت سرعته ولا ظهرت سيمافورات تدل على اى شىء يمكن يحدث…فبدأ البعض يفكر..وسرت عدوى التفكير فى البعض..توقفت الأغانى..هرع الرجل الخمسينى الى قائد القطار…( لازم حد يخرج يكلم الركاب…ولازم نتخلص من الولد بتاع لافتة بنى سويف والمنيا)
فجأة يظهر مساعد القطار..يصيح بالركاب…معلش يا جماعه زمن الرحلة هايطول شوية..احنا ماشيين ببطء علشان سلامتكم .خصوصا ان الاحداث حوالينا بقت خطر واحنا خايفين عليكوا لانكوا اغلى من نور عينيا…هلل الركاب…وبدأت اصوات الأغانى تعلو مرة أُخرى..فماذا يمكن ان يحدث …
تصدح الأغانى ويجلجل صوت عبد الحليم حافظ بأغانى الستينات العتيقة العريقة ( ريسنا ملاح ومعدينا…عامل وفلاح من اهالينا) …قائد القطار مستمر فى رحلته…اشار بطرف عينه الى مساعده…اقترب المساعد همس القائد فى أذن مساعده ..العصافير…ابتسم المساعد وفتح باب غرفة القياده..خرج منها مسرعا واشار بطرف عينيه الى رجاله المنتشرين فى القطار..هرولوا ناحيته…همس فى اذنهم …العصافير..ابتسم رجاله بشده.وأنطلقوا بكل نشاط الى عربات القطار مطلقين صيحات غريبة غير مفهومة بدت كأنها اشارات سرية…فجأة دب خلافات فى القطار…هذا يتحرش بهذه..ونشال يسرق الركاب…ورجل دين يتهم كل اهل القطار بالكفر والزندقة , فاشتبك فى حوار مع عدد غير قليل من اهل القطار مع حفاظهم على هيبته ووقاره…وباعة الزمامير ينتشرون فجأة فى انحاء القطار…كل أطفال القطار اجبروا اهاليهم على شراء زمارة فانتشر الضجيج….الشاب الذى رأى لافته المنيا يقف مشدوها غير مصدق ما يرى…ما هذا العبث…
فجأة اشار قائد القطار لمساعده مرة أخرى شكلوا لجنه..ذهب المساعد الى القطار واستمتع قليلا بالفوضى والضجيج..ثم ارتسمت على شفاه ابتسامه عريضة…ثم صرخ صرحه عالية ..ثم ساد الصمت…القائد امر بتشكيل لجنه لاستعادة النظام….كان اللص والمتحرش والشيخ الواعظ قد وقعا فى ايدى رجال قائد القطار…أدخلوهم الى غرفة قائد القطار…الذى امر بصرف مكافاة إجاده لهم جميعا…مساعد القطار امر بتشكيل لجنه من الركاب بأختيار 20 راكب….وبما ان كل راكب يرى فى نفسه أهلية لعضوية اللجنه..فقد ترشح فجأة كل ركاب القطار…امر المساعد بضرورة اجراء عملية تصويت بين الركاب انفسهم…لأختيار العشرين..وأمرهم ان يتنفاهموا مع بعضهم البعض فى ذلك الأمر..فظهرت الأموال والرشاوى..رغم ان اللجنه ليس لها دور تقريبا…وعند اجراء التصويت..لم يحصل كل راكب الا على صوته…فما كان من المساعد الا ان يأمر رجاله بضرورة إختيار اعضاء اللجنه بأنفسهم..فظهرت المحسوبية والأستلطاف …كل ذلك يجرى والقطار يسير نحو وجهة اصبحت غير معلومة…وفجأة هرول المساعد الى قائده بفكرة لوذعيه…( إيه رأيك حضرتك نصرف لكل راكب عوامه…وزمارة هديه) …هلل قائد القطار للفكرة وأمر المساعد بتنفيذها على الفور…وسعد بها تقريبا غالبية الركاب فسرت السعاده والبغته فى ارجاء القطار…
تشكلت اللجنه واجتمعت فى احدى عربات القطار يتناقشون فى اى كلام ..فجأة دخل عليهم الشاب الذى رأى لافتة المنيا..يا جماعه ( القطر رايح الصعيد مش إسكندرية) …هجم عليه احدهم ولكمه يقوة سقط على اثرها الشاب وتكوم فوقه الأخرين اتهوه بالخيانة العظمى للقطار وقائد القطار ومساعد قائد القطار….بل وأتهمه البعض بخيانة الجماهير المهلله السعيده بالرحلة..وبالعوامات…وبالزمامير.وامرت اللجنه بالأجماع بحبسه لمدة اسبوع ومنعه من الطعام والشراب.
استمرت رحلة القطار…القائد لا يريد التوقف حتى لا يرى احد اسماء المحطات…فيكتشفون الوجهه…ولكن هل الركاب فعلا سعداء بالعوامات والزمامير…؟؟؟!!!!!
أدرك قائد القطار ان الوقوف فى المحطات القادمة سيكون إجباريا..فأمر مساعده ان يغلق كل نوافذ القطار بأى شىء بما يجعل من المستحيل على اى راكب ان يرى اسم محطة الوقوف.فيكتشفون ان القطار ليس متوجها الى الأسكندرية حيث الهواء العليل والبحر ..وكان من السهل اقناع الركاب بأن القطار سيتعرض لهجوم خارجى إرهابى كى يفرحوا ويهللوا بأغلاق كل النوافذ….مع الوقت تحول القطار الى قطعه من جهنم بفعل حرارة الجو..وسخونة حديد القطار…والأرهاق الذى بدأ يتسرب الى الركاب..حيث ان مقاعدهم الخشبية هى التى تم استخدامها فى اغلاق كل النوافذ…وكان على الجميع ان يستسلم للوقوف لساعات….خاصة ان غالبية الركاب تيقنوا إن زمن الوصول اصبح بالفعل غير معلوم ولكن يعزيهم ان القطار يسير…ويعزيهم اكثر انهم فى قطار…حيث اوهمهم رجال قائد القطار ان هناك بشرا أخرين لا يجدون حتى دابة تنقلهم من مكان الى أخر..وإن عليهم ان يسعدوا بل ويفتخروا بأنهم ركاب قطار ينهب الطريق نهبا.
مع الوقت تململ الركاب وبدأ السأم والضجر يتسلل اليهم وعلا صوتهم..هنا هرع الرجال الى مساعد القطار اجتمعوا مع لجنة العشرين..وكان الأقتراح هو وجوب ان يخرج قائد القطار للركاب بنفسه…فهو يتمتع بطلاوة الصوت..وملامحه التى تشبه ملامح نجوم السينما ستساعده حتما فى اسكات الركاب…
وافق قائد القطار على مضض عى الخروج الى الركاب…والقى عليهم خطبة عصماء..وحثهم على ضرورة الأيمان بالله وان الحياة حق..وان الموت ايضا حق..وانه ليس هناك اجمل من الإستشهاد فى سبيل القطار ..وقام بتكريم بعض الركاب ثم أمر بفتح جميع النوافذ ..فعلت الهتافات فى ارجاء القطارتهتف بحياة قائد القطار…الذى انفعل اكثر فامر بتوزيع الحلوى على الركاب كما نصحهم بضرورة نفخ العوامات استعدادا للوصول..(ربما لينقطع نَفَس الركاب فى النفخ)
هنا انفعل الشاب الذى رأى لافتة المنيا فهتف…(مش مهم القطر رايح فين..ان شاء الله يروح فى ستين داهية….المهم ان احنا معاك…وفى حِماك…) ربت القائد على كتف الشاب ..وأمر بضمه الى لجنة العشرين.
عاد الشاب الى مكانه ..فهمس احد العجائز الذين رأوا اللافته معه..لماذا فعلت ذلك…فأجاب الشاب..ان هذ هو عصر الجنون…ومن الجنون ان يحتفظ المرء بعقله..وسط المجانين.
ليست هذه هى نهاية الرحلة المجنونه….فعلى كل قارىء ان يضع النهاية التى يراها بنفسه…ابتسم……انت فى القطار.