دكتور عبد الهادي السبع يكتب الرجل الفضائي

حتى سنوات، كان الرجل الذي ليس عليه دَين لأحد رجلًا فاضلًا، ونموذجًا في الاستقامة والحياة النشيطة العاملة. أما اليوم، فهذا النوع من الرجال رجل فضائي. من لا يدين لأحد بشيء، لا وجود له. أنا مدين، فأنا موجود. أما البريء من أي دين، فلا يستحق اسمًا ولا وجهًا: البطاقة الائتمانية دليل حقنا في الوجود. الديون: هي ما عند الذين ليس عندهم شيء. فما من شخص أو بلد في هذا العالم إلا وله قدمُّ واحدة على الأقل في الفخ.

المنظومة الإنتاجية، التي باتت منظومة مالية، تُضاعف المدينين لتضاعف المستهلكين. لقد حذر كارل ماركس، الذي توقع هذه الحالة قبل قرن من الزمان، من أن نزوع الربحية إلى الهبوط وحَول توجه نحو زيادة الانتاج تجبران المنظومة على النمو نموا منفلتًا، وتوسع سلطة طفيليات “البنكوقراط” توسعًا جنونيًا، علما بأنه عرّف هؤلاء بأنهم “عصابة لا تفهم شيئًا في الإنتاج، ولا علاقة لها به من قريب ولا من بعيد”.

إن الإنفجار الاستهلاكي في عالم اليوم يحدثُ من الضوضاء ما هو أشدّ وأقوى من ضوضاء كل انفجار، ومن الصخبِ ما يفوق صخبَ كل كرنفال. يقول مثل تركي قديم:” مَن يشرب بالدين يسكر ضعفين”. حفلة العربدة هذه تجعل رؤوسنا تدور ورؤيتنا تتضبب، إذ لا يبدو لها من حدود زمانية ولا مكانية. لكن ثقافة الاستهلاك تشبه الطبل: يرنّ لأنه فارغ.

وحين يجدّ الجدّ، ويتوقف الصياح وتنتهي الحفلة، يصحو السكران ليجد نفسه وحيدًا، من دون صحبة غير ظِلّه وصحون مكسورة عليه أن يدفع ثمنها. يصطدم التوسع في الطلب بالحدود التي تفرضها المنظومة نفسها التي أنشأته.

إن المنظومة تحتاج أسواقًا دائمًة التوسع والانفتاح، كما تحتاج الرئة إلى الهواء. وتحتاج أيضًا إلى أن تنهار أسعار المواد الخام وتزحف العمالة البشرية زحفًا على الأرض. هذه المنظومة تتكلم باسم الجميع، وتوجه أمرها بالاستهلاك إلى الجميع، وتنشر حمى الشراء بين الجميع، ولكن ما من سبيل: فالمغامرة تبدأ وتنتهي، بالنسبة إلى الجميع تقريبًا، على شاشات التلفزيون.

غالبية الناس الذين يحمّلون أنفسهم أعباء الديون ليملكوا كل شيء، سرعان ما ينتهي بهم المطاف مثقلين بديون أخرى لتسديد ديون تولدت عن تلك الديون، وليصلوا أخيرًا إلى حالة من حمّى خيال قد يصبّ في الإجرام.