الدبلوماسية البابوية وإفريقيا.. دلالات وأبعاد رحلة البابا فرنسيس الإفريقية
بقلم أ. د. حمدي عبدالرحمن حسن
أنطلق البابا فرانسيس في رحلة مدتها ستة أيام ابتداء من 31 يناير 2023 لدولتين من بين أكثر دول العالم فقرا وعدم استقرار، وهما جمهورية الكونغو الديمقراطية وجنوب السودان. وتعتبر هذه الرحلة البابوية من أكثر الرحلات تحديًا في عهده، حيث يواجه كلا البلدين نفس القضايا التي وضعها البابا فرانسيس على قائمة أولوياته في عهده البابوي ، مثل الاستغلال من قبل القوى الخارجية، وانتشار الأسلحة، وتدمير البيئة، وهو الأمر الذي يفضي إلى زيادة العنف وعدم الاستقرار.
السفاري البابوية في إفريقيا:
منذ انتخاب البابا فرانسيس عام 2013 ، قام رئيس الكنيسة الكاثوليكية بأربع رحلات إلى القارة وزار ثماني دول. كانت رحلته الأولى إلى إفريقيا في 25 نوفمبر 2015. وصل لأول مرة إلى نيروبي في كينيا حيث التقى برئيس الدولة وأعضاء السلك الدبلوماسي. في اليوم التالي ترأس قداسًا في جامعة نيروبي. وفي 27 نوفمبر ، زار حي كانجيمي الفقير وألقى كلمة أمام الشباب في ملعب كاساراني. وخلال إقامته في أوغندا (27-28 نوفمبر) ، التقى برئيس وممثلي الكنيسة الكاثوليكية المحلية بالإضافة إلى الشباب. وكان من أبرز معالم زيارته جولة في “الحرم الأنجليكاني والكاثوليكي” المكرس لنحو “22 شهيدًا وقديسًا مسيحيًا ” في القرن التاسع عشر.
ويعد ضريح “شهداء أوغندا ناموغونغو” واحدا من أكبر وجهات الحج المسيحية في القارة.على أن الجانب الأكثر تحديا في رحلته الرسولية هو سفره إلى جمهورية إفريقيا الوسطى (29-30 نوفمبر). كان الحبر مصحوبا بحراسة مشددة وركزت زيارته على نشر رسالة السلام والعدالة الاجتماعية والحوار مع الإسلام. لقد كانت جمهورية إفريقيا الوسطى ولا تزال تعانى من عواقب العنف الطائفى. قام البابا فرانسيس بلفتة رمزية بزيارة المسجد المركزي في بانغي ، وفتح “الباب المقدس” للكاتدرائية كعلامة على المصالحة.
في أبريل 2017 ، قام البابا بزيارة إلى القاهرة لمدة يومين. كانت أول رحلة بابوية إلى العاصمة المصرية منذ 20 عامًا. أراد أن يشير إلى قربه من أكبر جالية مسيحية في الشرق الأوسط ، والتي تعرضت لهجمات إرهابية. كما دشن فرانسيس أيضًا حوارا مع المسلمين ، حيث تحدث الحبر في جامعة الأزهر من خلال كلمة ألقاها أمام مؤتمر دولي للسلام استضافه الأزهر وترأسه إمامه الأكبر الدكتور أحمد الطيب. كما دعا البابا إلى الحوار المسكوني من خلال لقائه مع البابا القبطي الأرثوذكسي تواضروس الثاني.
وفي عام 2019 زار البابا المغرب بدعوة من الملك محمد السادس. خلال وجوده بالرباط ، زار البابا مركزًا ريفيًا للخدمات الاجتماعية ومركزًا لمساعدة المهاجرين. فقد أصبحت المملكة في السنوات الأخيرة الوجهة الرئيسية للمهاجرين الأفارقة جنوب الصحراء الذين يسعون للوصول إلى أوروبا عبر إسبانيا. وفي في سبتمبر 2019 ، قام الأب الروحي لنحو 1.3 مليار كاثوليكي بجولة رابعة في بلدان المحيط الهندي ، حيث زار موزمبيق ومدغشقر ، و موريشيوس.
وعلى الرغم من اعتبار الكنيسة الكاثوليكية قوة استقرار في البلدان ذات الكثافة الكاثوليكية ، فإن عبء الاستقرار يقع في هذه الزيارة الخامسة على عاتق البابا فرانسيس، البالغ من العمر 86 عامًا ولديه قدرة محدودة على الحركة. تأثرت الرحلة أيضًا بفعل سيطرة الجماعات المتمردة على الأراضي في شرق الكونغو ، مما دفع الفاتيكان إلى قطع التوقف المخطط له في تلك المنطقة. وهكذا فإن هذه الزيارات تعكس اهتمام البابا بالمناطق التي كانت تعد تاريخيا على هامش الكنيسة الكاثوليكية.
دلالات الرحلة الخامسة عام 2023:
من الواضح أن البابا فرانسيس أظهر اهتمامًا بإفريقيا أكثر من سلفه البابا بنديكتوس السادس عشر، ويرجع ذلك إلى نمو الكاثوليكية في إفريقيا على الرغم من التحديات التي تواجهها من الحركات المسيحية الأخرى. بالإضافة إلى ذلك ، فإن أسلوب فرانسيس الشخصي قاده إلى البحث عن الأماكن التي يعتبرها مهملة أو مهمشة. بيد أن فرانسيس قادم أيضًا إلى إفريقيا للقاء بعض اللاعبين الرئيسيين في الكاثوليكية الإفريقية الذين يزداد دورهم وتأثيرهم بشكل كبير لدرجة أن البعض يرى إفريقيا كمختبر لمستقبل الكنيسة بأكملها. بل ويتوقع البعض كذلك أن يصبح البابا المقبل إفريقيا.
لا يخلو اختيار كل من الكونغو كينشاشا وجنوب السودان من دلالات واضحة . تقوم الكنيسة الكونغولية بدور مهم في توفير التعليم والرعاية الصحية ، فضلاً عن الإشراف على الطريق نحو التحول الديمقراطي . كما أن البابا استثمر شخصيًا في التوسط في السلام بين الفصائل المتناحرة في جنوب السودان. وعلى الرغم من وجود كل من الرئيس سلفا كير وزعيم المتمردين السابق ريك مشار في نفس الحكومة ، إلا أن البلاد بالكاد تتماسك بسبب القتال المستمر والكوارث المناخية ، مما تسبب في واحدة من أكبر أزمات اللاجئين في إفريقيا . وعلى أية حال تأتي رحلة البابا فرانسيس إلى الكونغو وجنوب السودان في وقت تصاعدت فيه التوترات والمخاوف من اندلاع صراع إقليمي على طول حدود الكونغو ورواندا، مع هجوم صاروخي أخيرًا شنته رواندا على طائرة مقاتلة كونغولية. وقد وجد فريق خبراء الأمم المتحدة أن رواندا كانت تدعم متمردي حركة 23 مارس ، وهي جماعة مسؤولة عن القتل الجماعي للمدنيين ، وهو ادعاء نفته رواندا مرارا وتكرارا.
كما تسلط رحلة البابا فرانسيس إلى الكونغو وجنوب السودان الضوء على تحديات وتعقيدات القضايا التي تشكل جوهر أجندة أعماله، والدور المحوري الذي تلعبه الكنيسة الكاثوليكية في تحقيق الاستقرار في البلدان التي تواجه الفقر والعنف وعدم الاستقرار. هذا يجعل رحلة فرانسيس ، الخامسة له إلى القارة الإفريقية في حبريته التي استمرت 10 سنوات ، أكثر أهمية حيث يسعى البابا اليسوعي إلى إعادة تشكيل الكنيسة على أنها “الملجأ والملاذ ” لكل الفقراء والمحرومين والمتطلعين إلى السلام في إفريقيا.
على أن الزيارات البابوية ودور الفاتيكان المتصاعد في إفريقيا تهدف أيضا إلى دعم الروابط مع النخب الكاثوليكية المؤثرة في إفريقيا . بصرف النظر عن خبرة الشمال الأفريقي والسودان، فقد قاد الكاثوليك المعمدانيين حروب التحرير. روبرت موغابي (في زمبابوي)؛ و سامورا ماشيل وإدواردو موندلين (في موزمبيق) ؛ وباتريس لومومبا من الكونغو ؛ و أميلكار كابرال في غينيا بيساو والرأس الأخضر، و أجوستينو نيتو من أنجولا . لقد كان مواليمو نيريري ، وهو كاثوليكي متدين ، حارس مجموعة لجنة التحرير في إفريقيا.. وعليه يستشعر البابا فرانسيس أن عليه واجب مساعدة المجتمع الكاثوليكي على الاعتراف بالمسؤوليات التاريخية التي تحملها أبطال التحرير هؤلاء وتكريمهم.
المسكوت عنه وصمت الفاتيكان:
إن الفصل العنصري ،الذي يمثل “جريمة ضد الإنسانية” والذي استمر كشكل من أشكال الحكم في جنوب إفريقيا وجنوب غرب إفريقيا (ناميبيا الآن) ، هو فصل مظلم في تاريخ البشرية. وعلى الرغم من الفظائع التي ارتكبت خلال هذا الوقت ، فإن الفاتيكان إما شجع أو تجاهل الصمت واللامبالاة من قبل الكهنة والأساقفة والكاردينالات الأوروبيين والأفارقة. لا يزال هذا الغياب لقادة شجعان مناهضين للفصل العنصري ، مثل الأسقف الراحل ديزموند توتو من الكنيسة الأنجليكانية ، موقفا لافتا في المجتمع الكاثوليكي.
وبينما استمرت الولايات المتحدة وبريطانيا والدول الاسكندنافية في معاقبة زيمبابوي لرفضها دفع تعويضات للمزارعين المهاجرين الأوروبيين، فإنهم يظلون صامتين بشأن الفظائع والسرقات الاقتصادية التي ترتكبها الشركات البريطانية والأوروبية الأمريكية ضد إفريقيا . إن عقودا طويلة من الموارد المعدنية المنهوبة والأراضي الخصبة تتطلب تعويضات للقارة.
وللمفارقة يقود الولايات المتحدة حاليًا نخبة كاثوليكية ذات أصول أيرلندية ، وفرنسا في الغالب كاثوليكية. ومع ذلك يستضيف كلا البلدين أقوى 830 شركة اتهمتها لجنة تابعة للأمم المتحدة بتزويد أكثر من 120 جماعة مسلحة تقوم بقتل وحرق المنازل وتطرد السكان من المناطق التي تمتلك موارد معدنية غنية. وقد ذكر البابا هذه المشكلة ، ومن مسؤوليته عقد مؤتمر ينظمه الفاتيكان ضد العنف القائم على الموارد في إفريقيا . يجب أن يحضر هذا المؤتمر قادة العالم، بما في ذلك جو بايدن ، وإيمانويل ماكرون، وفيليكس تشيسكيدي من جمهورية الكونغو الديمقراطية ، وزعماء الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا.
وفي الختام:
يمكن القول أن للفاتيكان ، المعروف أيضًا باسم الكرسي الرسولي، تاريخ طويل من العلاقات مع إفريقيا، ربما يعود ذلك الارتباط إلى العصر المسيحي المبكر. كما أن للكنيسة الكاثوليكية حضور كبير في إفريقيا، حيث تضم ملايين الأتباع وعدد كبير من الكهنة والأساقفة والقادة الدينيين الآخرين. وفي العقود الأخيرة ، سعى الفاتيكان إلى تعزيز علاقاته مع الدول الإفريقية من خلال مبادرات مختلفة ، بما في ذلك الجهود الدبلوماسية وبرامج المساعدة والتواصل الديني. وقد أعطى البابا فرانسيس الكرسي الرسولي قوة دفع أيضًا في تعزيز السلام والعدالة الاجتماعية في إفريقيا، وتحدث عن مجموعة من القضايا السياسية والاجتماعية التي تؤثر على القارة ، مثل الفقر والصراع وانتهاكات حقوق الإنسان.
كما عمل الفاتيكان أيضًا على تعزيز الحوار بين اتباع الشرائع والتعاون في إفريقيا، وشجع على زيادة التعاون بين الكنيسة الكاثوليكية والطوائف المسيحية الأخرى في القارة. بيد أن المسكوت عنه يظل في معالجة ميراث الصمت التاريخي للفاتيكان عن التفرقة العنصرية ومسألة دفع التعويضات للأفارقة عن سنوات الاستعباد والاستعمار.
المصدر:قراءات أفريقية