تقول الطرفة أن ثلاثة سودانيين شكلوا حزباً سياسياً في الخارج، ثم توصلوا لاتفاق مع السلطة الحاكمة، ونص الاتفاق على منح الحزب منصباً واحداً، وبعد وصولهم إلى مطار الخرطوم، تساءل أحد الأعضاء عن أيهم أحق بالمنصب؟ بادر الثاني بالاتصال بمجموعة من الصحافيين وعقد مؤتمراً صحفياً أعلن فيه فصل العضو المتسائل، بينما تم تجميد عضوية العضو الثاني.الطرفة تشير إلى حالة التشظي السودانية، ولا علاقة لها بطريقة مباشرة عن حال حزب ” المؤتمر السوداني” الذي تشهد أروقته الداخلية ” زوابع رعدية” و” أغبرة”. لا علم لي بتفاصيل ما يدور داخل المؤتمر السوداني، لكن المعلومة العامة المتوفرة لدي، وقبل انتشارها يوم أمس، تشير إلى أن الحزب أصدر قراراً بتجميد (( ١٧) عضواً وقيادياً، وشمل التجميد القيادي المعروف نور الدين صلاح الدين، ورئيس فرعية الحزب بولاية الخرطوم سليمان الغوث.كان يمكن التعامل مع قرار ” التجميد” بصورة طبيعية، فالمؤسسات ” الديموقراطية” لها نظمها ولوائحها، ولها كذلك فلسفتها التي تعينها على كيفية إدارة الخلافات الداخلية وتقريب وجهات النظر. مع تأكيد مصادر أن ” الخلافات ” قديمة، لكن يتخوف البعض من أن تكون للخلافات علاقة بالراهن السياسي وموضوع التوقيع على الاتفاق الاطاري، وهذا يعني أن الحزب الذي يشارك في عملية ” تشكيل مركز قيادة موحد” يشبه النجار صاحب ” الباب المخلع”، وبكل تأكيد سوف تنعكس الظلال السالبة على مجمل العملية السياسية. إن مسألة بروز تيارات متصارعة داخل حزب يمكن تصنيفه بأنه ” ليبرالي” يمكن التعامل معها بكل مرونة وداخل المؤسسات الديموقراطية، لكن الخوف أن يتجه فريق ” أي فريق، ولا أعني فريقاً بعينه” إلى اتخاذ وسائل غير ديموقراطية لفرض رؤيته، أو حل النزاع؛ هذا يعني المواجهة والمصادمة والتشظي.و يعني أن التيار الذي يفرض رؤاه بالقوة لم ينعتق من سياق الوعي السوداني السائد، المبني على الاقصاء ورفض الآخر، بل والقضاء عليه، ولم يتحرر من أسر أنماط التفكير التقليدية التي تعبر عن العقول المعيارية، أي أنها عقول خاضعة وتابعة، لا تمتلك أدوات التفكير النقدي.وهي حالة مرتبطة بطرائق تفكير عقلنا الجمعي المأزوم، حتى صارت الانقسامات ماركة سودانية، وطالت الانقسامات حتى الفرق الفنية” عقد الجلاد” و ” هيلاهوب” المسرحية مثالاً، فليس هناك من عمل منظم في السودان قائم على المؤسسية، واحترام الآخر.يمكن اعتبار أن ما يدور داخل أروقة المؤتمر السوداني ” جرس إنذار” يقرع عالياً للتنبيه والتحذير من حدوث مالات غير مستحبة؛ لا سيما وأن أداء الحزب تنظيمياً وإعلامياً يظل مثيراً للجدل، لا سيما بعد فترة الانتقال، والأعباء التي تحمل الحزب كثيراً من أوزارها؛ بسبب أخطاء تنفيذية للحكومة، أو أخطاء سياسية للحرية والتغيير أو للحزب نفسه، والذي يفرض عليه الواقع الانفتاح والخروج من صناديق نخبوية النادي السياسي السوداني.إن اختلاف الرأي ظاهرة طبيعية، وليس من العسير إدارتها ” داخل المؤسسات، الديموقراطية حيث يمكن الحوار والجدل، والتصويت، وقبل ذلك تكوين ” لوبيهات” لاتخاذ قرارٍ ما، طالما كانت ” اللوبيهات” ملتزمة بمبادئ المنظومة وموجهاتها العامة، وتقاليدها الديمقراطية.المعروف أن الأحزاب الليبرالية تحترم تعدد الأصوات، وتباين الآراء، واختلاف وجهات النظر، وتمتلك القدرة على إدارة ذلك داخل ” المواعين” التنظيمية، على عكس تقاليد الأحزاب العقائدية أو الطائفية التي تعتبر وجود تكتلات تنظيمية ” نشاطاً هداماً ” يستحق الحسم والبتر والفصل دون لجوء لتكوين لجان تحقيق، أو محاسبة، أو اجراء تصويت داخل المنظومة. للمؤتمر السوداني، تجارب ديموقراطية مشرقة، فهو الحزب السوداني الوحيد، الذي ظل يحرص على تداول السلطة سلمياً، حيث شارك في آخر مؤتمر أربعة رؤساء سابقون، وهذه ظاهرة لا تحدث إلا في النظم الديموقراطية العريقة، وأتمنى أن تمر ” الزوابع” وأن تمطر خيراً، وتزدهر ” سنابلاً” تثري العملية الديموقراطية.
صحفي سوداني