لماذا العزوف غير المسبوق عن المشاركة بعد الثورة؟
الكتابة عن تونس في هذه اللحظة المهمة مع انتخابات 17 ديسمبر التشريعية ( مجلس نواب الشعب إحدى غرفتي البرلمان وفق مشروع الرئيس قيس سعيد ) كانت تتطلب الذهاب إليها من أجل النظر بالعين. وتظل هذه الكتابة تطلب تفتح الحواس في الميدان على مختلف الأطراف والمستويات والتوجهات والميول من كبار المسئولين إلى المواطنين في الشوارع ومكاتب الإقتراع. إلا أن هذا لم يكن ممكنا بعد امتناع السفارة التونسية بالقاهرة عن منح كاتب هذا المقال تأشيرة دخول قبيل الاستفتاء على الدستور الجديد في 25 جويلية / يوليو الماضي ، وعلى نحو يعرقل عمله الصحفي ويحول بينه وبين الاعتياد والحرص على متابعة كل استحقاق انتخابي بعد الثورة التونسية(*).
وعلى أي حال، فلا عائق مهما كان تعسفيا غير مبرر بإمكانه دفع كاتب وصحفي متخصص في الشئون التونسية من الشغف بالمتابعة، ولو عن بعد، والإسهام في محاولة تفسير هذه اللحظة واستشراف تداعياتها.
وفي هذا المقال من ثلاثة أجزاء مجموعة ملاحظات أولية على ما جرى ويجرى بتونس، مع محاولة طرح أسئلة ومحددات عن المستقبل. وهذا بعدما جسدت نتائج وملابسات يوم 17 ديسمبر أزمة الرئيس “قيس سعيد” أو لنقل أزمة تونس والتي كانت تعد حتى انقلابه على المؤسسات المنتخبة والدستور، القصة الأكثر نجاحا وفرصا للتطور نحو المجتمع الديمقراطي و الدولة العصرية بعد الانتفاضات والثورات العربية في القرن الحادي والعشرين، ولو نسبيا.
عن “هستيريا” العشرية السوداء
بدأ مسار 25 جويلية / يوليو 2021 واستمر عبر محطاته المتتالية بدعم من قوى محلية داخل تونس وإقليمية ودولية خارجها . وجاءت انتخابات 17 ديسمبر 2022 التي “هندسها” الرئيس “سعيد” بمثابة أول ثمرة لدستوره الجديد، وبعدما عطل ثم ألغى دستور 2014 والبرلمان المنتخب في 2019. لكن هذه الانتخابات سجلت أدنى مشاركة وأعظم عزوف من الناخبين التونسيين منذ الاستحقاق الانتخابي الأول بعد الثورة التونسية في 23 أكتوبر 2011 (المجلس التأسيسي ) .
ولا تستطيع تكنيكات “الإنكار” و”التبرير” وبالإحالة إلى “علم النفس السياسي” إخفاء الحقيقة الصلبة والمجردة أن نسبة مشاركة أقل من 9 في المائة عن نحو 800 ألف ناخب ( قد ترفعها هيئة الانتخابات لاحقا إلى 11 في المائة) مخيبة لآمال “سعيد” وللقوى الداعمة له ولمشروعه. وهي بمثابة فشل كبير إذا ما قورنت بمعطيات الاستحقاقات الانتخابية لما وصفته دعاية جبارة عابرة للحدود انتشرت داخل تونس كالنار في الهشيم ـ وفجأة بعد 25 جويلية ـ “بعشرية سوداء” جلبتها ثورة 17 ديسمبر 2010 / 14 جانفي / يناير 2011. وبالفعل فإن ” العشرية السوداء” ، أصبحت تتصدر فجأة كمسلمة مفروغ منها وقناعة لا تقبل النقاش خطاب قطاعات كبيرة بين الساسة وأهل المجتمع المدني وعلى ألسنة عموم الناس في تونس، وحتى لو كانوا هم أنفسهم فاعلين ومباركين للكثير مما جرى خلال سنواتها.
ولقد بدا هذا الوصف / الوصم ” العشرية السوداء” بمثابة العنوان الرئيسي الذي يطفو فوق سيل جارف من المبالغات والإفتراءات والأكاذيب والتعميمات غير الموضوعية وغير العلمية. ناهيك عن كونه وبالأصل لغويا ودلاليا ينطوى على إحالات عنصرية بغيضة تلعب على التمييز ضد “الأسود” وإهانته وتحقيره. وبالطبع هناك فارق بين هذا الوصم وقد تحول إلى نوع من “الصمم ” و”حوار الطرشان” بفعل “هيستيريا جماعية” وكراهية لا تستثني الذات وبين وجهات نظر متعددة ظلت ومبكرا منذ 2011 تسعى لتقييم ونقد وتقويم مسار الانتقال إلى الديمقراطية بعد الثورة في تونس، ولا تغفل عن سلبياته وإخفاقاته، كما مكتسباته ونجاحاته.
الأرقام لا تكذب
وكي ندرك حجم الفشل الذي تجسده نتائج المشاركة في انتخابات 17 ديسمبر لننظر إلى المعطيات الإحصائية لكل التشريعيات السابقة. ونقارن مع تذكر أن المنحنى الصاعد لعزوف الناخبين كان وظل محل اهتمام ونقاش وبحث عن السلبيات مع طرح حلول لها، وإن لم تتوفر الإرادة السياسية الكافية لتجريبها. لكن بالطبع لم تصل الأمور أبدا لأقل من نسبة 9 في المائة، كما صرح بها مجلس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات المعين من الرئيس “سعيد”. وهي نسبة محل تشكيك من معارضيه ومراقبين مستقلين لم تعد عندهم ثقة في الهيئة ولا في معطياتها الاحصائية منذ الاستفتاء على الدستور الجديد 25 يوليو الماضي.
.. إذن لننظر إلى هذه المعطيات :
ـ في 2019اقترع نحو 2,9 مليون ناخب وبنسبة 41,1 في المائة من إجمالي المسجلين بإرادتهم، و البالغ عددهم نحو 7 ملايين.
ـ في 2014 كان الأعلى في نسب المشاركة (70,1 في المائة) والأدنى في العزوف، و حيث اقترع نحو 3,6 ملايين من إجمالي 4,9 ملايين في السجل الانتخابي.
ـ في 2011 ومع الاستحقاق الأول بعد الثورة، كان الرقم الأعلى من المقترعين ( 4,3 ملايين ناخب)، ويتجاوز أعداد الناخبين المسجلين إراديا بأنفسهم (4,1 ملايين). وقد حضر إلى لجان الاقتراع نحو 200 ألفا بالزيادة من خارج السجل الانتخابي. وتقدر مصادر تونسية نسبة المشاركة حينها بـ 54,1 في المائة بالنسبة إلى إجمالي الجسم الانتخابي ( من يحق لهم التصويت ).
بين المقاطعة والعزوف
وفي تفسير العزوف غير المسبوق منذ الثورة مع الاقتراع على الغرفة الأولى من “برلمان قيس سعيد” هناك افتراضات عديدة:
يمكن القول بفاعلية المقاطعة التي دعا إليها معارضو الرئيس ومشروعه، وهي معارضات أشبة بالجزر المتباعدة،وإن إتسعت وتنوعت وتوالدت حتى من رحم خزانه الداعم لحظة 25 جويلية 2021. والحاصل أن “سعيد” أخذ يفقد من مؤيديه مع كل محطة من محطات مشروعه، والذي توالت الشواهد على أنه يعيد انتاج حكم “الرئيس” الفرد واسع السلطات والصلاحيات، ويهمش المؤسسات،ويعتدي على الحريات والحقوق .
ويمثل جمهور المصوتين للأحزاب المعارضة الآن لـ “سعيد” غالبية ناخبي المجلس التأسيسي ثم البرلمانين اللاحقين جميعها، وباستثناءات نادرة ذهبت لقائمات المستقلين أو لأحزاب موالية اليوم للرئيس، وأبرزها وأهمها حزب “حركة الشعب” القومية الناصرية. وربما نجحت هذه الأحزاب الداعية لمقاطعة تشريعية 2022 في دفع غالبية من شاركوا بإيجابية في الاستحقاقات التشريعية السابقة للمقاطعة، أو عززت خيارهم هذه المرة بالعزوف.
كتلة سلبية تتسع
وقد نفترض من جانب آخر أن الكتلة السلبية سياسيا وانتخابيا الموروثة من زمن الدكتاتورية قبل الثورة استمرت في النمو والإتساع جراء عوامل عديدة ، ومن بينها مواصلة الإخفاق في التغيير وتحقيق أهداف من خرجوا للثورة على نظام الرئيس “بن على”. ويتقدم عوامل الإخفاق الأوضاع المعيشية الاقتصادية للطبقات العمالية والفلاحية والوسطى والعاطلين التي رفعت الثورة سقف طموحاتها في تغييرها وتحسينها وسريعا دون أن تجد تلبية وإشباعا من الحكومات المتعاقبة على مدى مايقرب من 12 عاما، وبما في ذلك عهد الرئيس ” قيس سعيد”. بل تفاقمت معاناة هذه الطبقات بعد انفراده بالسلطات منذ 25 جويلية 2021. والمعروف أن العديد من الباحثين يجدون ارتباطا بين ضعف و انخفاض المشاركة السياسية والانتخابية وبين سوء وتدهور الأوضاع المعيشية الاقتصادية. وهو ما انتهى إليه كتاب قيد النشر لصاحب هذا المقال بعنوان “المظاهرة والصندوق: الاحتجاجات الاجتماعية والانتخابات البلدية بتونس2018” يقوم على ملاحظات ومقابلات من الميدان في العديد من المدن والأحياء التونسية.
و بالأصل كان بالإمكان الانتباه بداية إلى هذه الكتلة السلبية الوازنة مع انتخابات أكتوبر2011 وبنسبة تقدر بنحو 45 في المائة. وهذا في ظل ذروة الآمال في بناء نظام حكم وسياسة يقطع مع ما كان قبل الثورة من تغول سلطة رئيس الدولة وحزبه الحاكم وبرلمان بلا صلاحيات حقيقية إزاء السلطة التنفيذية، ويحقق المواطنة والثقة في صندوق الاقتراع والأمان في ممارسة السياسة بالاستقلال عن السلطة دون مخاطر وتكاليف القمع والاضطهاد. و بالطبع يرعى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ويحسن من مستويات المعيشة والعدالة الاجتماعية وتوزيع عوائد العمل والثروات. ولاحقا زاد وزن هذه الكتلة السلبية ليبلغ مع تشريعية أكتوبر 2019 نحو 59 في المائة. وهذا السلوك الانتخابي السلبي يحدث بالنسبة للعديد من تجارب الانتقال إلى الديمقراطية بعد الثورات في أنحاء العالم. وهي بحق ظاهرة معضلة تناقشها وتعالجها كتب ودراسات بلا حصر.
لكن يقينا واليوم على ضوء نتائج انتخابات 17 ديسمبر2022 يتضح أن المسار والمناخ الذي تحكم فيه بدرجة كبيرة الرئيس “قيس سعيد” ومؤيدوه محليا وإقليميا قد تسبب في قفزة كبرى لافتة بالنسبة لنمو كتلة المواطنين السلبيين. وهذا على خلاف ما ادعاه وداعموه من أنه سيعيد السياسة إلى الشارع، ويحقق ما أسماه “الديمقراطية المباشرة”، ويقلب موازين العلاقة بين المواطن الناخب والنائب الذي يمثله لصالح الأول. وأيضا على خلاف ما جرى روجته قمة هرم السلطة التنفيذية المهيمنة المتسلطة على مدي الشهور الماضية من تصورات “طوباوية” لم تختبر عن أفضلية نظام الانتخاب والتمثيل الفردي القائم على علاقة مباشرة مع الناخبين وفي دوائر محدودة جفرافيا وشبة متجانسة، وحتى لو باستدعاء وإحياء انتماءات وروابط العائلات و العصبيات الجهوية و العروشية. و كذا على خلاف الترويج “لطوباوية” سحب الناخبين الوكالة ممن انتخبوه ليمثلهم.
وعلى عكس كل ماسبق، جاء العزوف غير المسبوق بعد الثورة يوم اقتراع 17 ديسمبر 2022 كي نتذكر ولينبهنا إلى أن مناخ المنافسة السياسية الحزبية والفكرية الذي صاحب انتخابات 2014 أسفر عن أعلى نسبة مشاركة في انتخابات تشريعية بعد الثورة. كما ينبهنا كذلك إلى أن انتخابات ما بعد الثورة مباشرة و بشهور سجلت بدورها أعلى رقم بالمطلق في مشاركة الناخبين. في تلك الأيام التي كنت شاهدا عليها من الميدان بتونس كان النقاش والجدل في الشأن العام والسياسة وحول المأمول من دستور الثورة على قارعة الطريق، ويتبلور في تيارات ويتنظم في أحزاب ومنظمات وغيرها من الأجسام الوسيطة بين السلطة والمواطنين، وعلى المستوى الوطني المتجاوز للانتماءات المحلية والجهوية.. وغيرها من انتماءات قد تعيد التونسيين إلى عصر ما قبل المواطن.
(*)تقدمت إلى السفارة التونسية في القاهرة يوم 13 يونيو 2022 بطلب تأشيرة دخول تسمح بالسفر إلى تونس قبل الاستفتاء على الدستور الجديد يوم 25 يوليو 2022، مع إرفاق كافة الأوراق المطلوبة وزيادة. ودفعت مقدما رسوم التأشيرة التي بلغت حينها 2200 جنيها لسفرة واحدة. ولما لم أتلق ردا على الطلب، راسلت سفير تونس بالقاهرة السيد / محمد بن يوسف على بريد السفارة الإلكتروني بتاريخ 20 يوليو 2022، ولم يتفضل بالرد أيضا. وراجعت شباك التأشيرات بالسفارة التونسية في الزمالك للمرة الأخيرة قبل موعد الاستفتاء لأرفق المزيد من الأوراق ومن بينها صورة من تصريح (بادج ) الهيئة العليا للانتخابات في تونس لي كصحفي أجنبي بتغطية الاستفتاء هناك ومخاطبات من الزميل الأستاذ/ مجدي شندي رئيس تحرير جريدة ” المشهد” المصرية للسفير ولهيئة الانتخابات. ولليوم لم أتلق ردا أو تفسيرا لامن السفارة أو أي جهة تونسية، كما لم استرجع ما دفعت من رسوم. وبدورها لم تتلق النقابة الوطنية للصحفيين التونسين ردا أو تفسيرا من الجهات التي تفضلت بمخاطبتها في تونس العاصمة بشأن عرقلة عملي الصحفي . وبالطبع هذه سابقة بالنسبة لصحفي مصري قام بزيارات متعددة لتونس اعتبارا من سبتمبر 2011، وقام بتغطية كافة استحقاقاتها الانتخابية قبل استفتاء 25 يوليو 2022، وكان مقيما بتونس كمراسل صحفي “للأهرام ” بين نوفمبر 2016 و بلوغه الستين عام 2018. ولم يخالف يوما القوانين التونسية أو يتجاوز توقيت أي تأشيرة دخول أو تصريح إقامة. واللافت أن تجري هذه السابقة معه له سبعة كتب والعديد من الدراسات والمقالات والحوارات وكافة فنون الكتابة الصحفية في الشئون التونسية، بينما تحتفل مصر وتونس بعام الثقافة المشتركة بينهما.