عكس التيار
تبدو الفاشر اليوم، عاصمة دارفور الجريحة، وكأنها أصبحت فجأة «مسرح العالم».
كل عدسات الإعلام الغربي والعربي، ووكالات الأنباء، والمنظمات الحقوقية، اتجهت نحوها دفعة واحدة، تتحدث عن «جرائم الدعم السريع»، وعن «حميدتي دقلو» الذي صار عنوانًا للوحشية الإفريقية والهمجية الصحراوية.
لكن السؤال الذي لا يطرحه أحد: لماذا الآن؟ ولماذا بهذا الحجم من التهويل والتكرار؟
لا أحد يعفي حميدتي وداعميه المعروفين للعامة قبل المتخصصين من المسؤولية عما يجري.
الجرائم التي ارتكبها الدعم السريع في دارفور، من قتلٍ جماعي واغتصابٍ ونهبٍ وتطهيرٍ عرقي، موثقة منذ سنوات.
لكن الجديد ليس في الحدث ذاته، بل في طريقة تسويقه، وفي توقيت تضخيمه الإعلامي الذي جاء متزامنًا محاكمة مرتكبي جرائم الإبادة في غزة، ومع انكشاف الوجه الحقيقي للاحتلال الإسرائيلي الذي لم يعد يجد ما يبرّر جرائمه أمام الرأي العام العالمي.
في غزة، قُتل أكثر من ٧٠ ألف مدني، ودُمِّرت المستشفيات والمدارس ودور العبادة للمسلمين والمسيحيين، وكذا والملاجئ والمخيمات فوق رؤوس أهلها.
الصور وحدها كفيلة بإسقاط كل الأقنعة، لكنّ العالم صمّ أذنيه وفتح شاشاته ليتحدث عن «الفاشر»، لا عن «غزة».
وفي الوقت الذي تغرق فيه الشاشات الغربية بتقارير عن «جرائم حميدتي»، تتراجع التغطية الميدانية لجرائم الاحتلال إلى الهامش، وكأننا أمام مسرحية إعلامية مُعدّة بعناية … الشرّ الإفريقي الأسود في مقابل «الضحية الإسرائيلية البيضاء»!
لقد فعلوها من قبل.
حين ارتكبت الولايات المتحدة مجازر الفلوجة في العراق عام ٢٠٠٤، ملأوا الدنيا ضجيجًا عن «مجازر الجنجويد في دارفور» في العام نفسه.
وحين كانت الطائرات الأمريكية تُمطر المدنيين في كابول بالقنابل، كانت عناوين الصحف تتحدث عن «كارثة إنسانية في إفريقيا».
نمط متكرر … حين يُدان الغرب في مكان، يبحث عن مذنبٍ بديل في مكانٍ آخر.
اليوم يُعاد المشهد نفسه …
بينما تتكشف جرائم الاحتلال الإسرائيلي في غزة أمام العالم، يتم تقديم حميدتي على أنه «الشيطان الأكبر» الجديد، في عملية إلهاءٍ مدروسة تتقنها المؤسسات الإعلامية الكبرى التي تمسك بخيوط السرد العالمي.
نعم، ما يفعله الدعم السريع لا يُغتفر…لكن من يُموّله؟ ومن يغض الطرف عن تحركاته؟ ومن يزوّده بالمال والسلاح والمعلومات؟
الذين يصورونه اليوم كـ«جزار دارفور» هم أنفسهم الذين أغمضوا أعينهم عن جرائمه لسنوات، حين كانت تخدم مصالحهم في السودان وليبيا واليمن.
إنه الازدواج الأخلاقي في أبهى صوره …
– دمٌّ فلسطينيٌّ يُهدر على مرأى من العالم، دون محاسبة.
– ودمٌّ سودانيٌّ يُستغل لتبييض سجلّ الغرب في غزة.
ما بين الفاشر وغزة خيطٌ واحد من الخداع … في الأولى، يتم توظيف الجريمة لتوجيه الرأي العام.
وفي الثانية، يتم التعتيم على الجريمة لحماية الجاني الحقيقي.
لقد أصبحت الإنسانية في هذا الزمن انتقائية؛
تتحرك الكاميرات فقط حين يُراد للعالم أن يتحرك،
وتُسحب العدسات حين يُراد له أن يصمت.
إن كنا نريد عدالة حقيقية، فلنبدأ بميزان واحد، لا بكفتين.
فلنحاسب حميدتي على جرائمه، نعم،
لكن فلنحاسب أيضًا من سلّح حميدتي، ومن موّل إسرائيل، ومن يشتري الصمت بالدم والمال والنفط.
الفاشر ليست مجرد مدينة تُباد اليوم؛
هي مرآة تُظهر كيف تُدار الحروب بالوكالة، وكيف يُصاغ الضمير العالمي على مقاس المصالح.
وغزة ليست مجرد جغرافيا تُقصف؛
هي بوابة الوعي التي تكشف زيف الإنسانية المعلّبة التي تُباع وتُشترى في دهاليز السياسة والإعلام.
فلا تجعلوا من حميدتي كباش فداءٍ لجرائم تل أبيب،
ولا من الفاشر ستارًا يُخفي دماء غزة.
فمن أراد أن يتحدث عن حقوق الإنسان،
فلينظر أولًا إلى من يملك القرار.. ومن يملك الكاميرا.
كاتب صحفي مصري
وجه أفريقيا رئيس التحرير: سحر رجب