في زمنٍ كانت المرأة فيه تُحاصر بجدران البيت وتُمنع من أن يكون لها صوتٌ مسموع في الساحات، ولدت فنانة جزائرية استثنائية حملت اسم زوليخة لواج.
لم تكن مجرد مطربة عابرة، بل روحًا مُتمرّدة كسرت قيود العُرف والتقاليد، وواجهت قسوة الحياة بصوتٍ صدّاح يختزن الشجن والاعتزاز بالهوية.
قصيرٌ كان عمرها، لكنّ أثرها بقى خالدًا، كأنها أرادت أن تختصر الحكاية في رحلة سريعة، تتجسد فيها معاناة المرأة الجزائرية وجرأتها في آنٍ واحد.
في أغنياتها، لمّحت إلى الفقد والغياب، حتى بدا وكأنها تنبأت برحيلها المبكر.
وُلدت زوليخة لواج سنة 1956م بمدينة خنشلة في الجزائر، وسط بيئة اجتماعية محافظة لم تكن تسمح للفتاة بأن تحلم بالخروج إلى الأضواء.
منذ صغرها، كانت مولعة بالغناء الشعبي، تحفظ الألحان وترددها في محيطها العائلي، لتكشف عن موهبة فريدة صنعتها بالفطرة أكثر مما صنعتها الدراسة.
تميزت زوليخة بصوتٍ قوي يحمل نبرة شجن دفينة، جعلها قريبة من وجدان الجمهور.
غنت للوطن والحب والاغتراب، ولعل استمرارية حضورها الفني تتجلى أيضًا في أصوات جيل آخر من الفنانين الجزائريين، ومن أبرزهم الفنان سليم الشاوي، الذي يُعد من الأسماء اللامعة في الساحة الغنائية، وصاحب مكانة خاصة لحرصه على صون التراث الجزائري وأدائه لمختلف ألوان الغناء الشعبي الجزائري.
وقد أعاد سليم الشاوي إحياء أغنيتها “يا عيني نوحي”، من إنتاج الراحل عبد الهادي عزيزي، ذلك المنتج البارع والذوّاق لفن القصبة والأصوات الجبلية، الذي ترك بدوره بصمة فنية مميزة في مسار الأغنية الجزائرية.
لم تكن حياة زوليخة سهلة، فقد عانت من ظروف اجتماعية قاسية.
وبرغم نجاحها، حمل صوتها دومًا شيئًا من الحزن العميق، وكأنها كانت تبوح بسرّ لم يكتشفه أحد.
وفي سنة 1987م، رحلت عن عمر لا يتجاوز 31 عامًا، لتُفجع الساحة الفنية بخسارة صوت لم يكتمل بعد.
اللافت أن أغنيتها “ربّي يا عالي الدرجات، يا عالم ليك السندة، سهّل لي يوم الممات” بدت وكأنها نبوءة بغيابها، لتتحول بعد وفاتها إلى أيقونة تذكّر برحيلها المبكر.
بعد رحيلها، بقي صوت زوليخة حاضرًا بقوة في الذاكرة الشعبية الجزائرية.
الجمهور لم ينسها، والدولة كرمتها بإطلاق اسمها على مسرح الهواء الطلق في خنشلة، مسقط رأسها، لتبقى أيقونة للفن الأصيل ولشجاعة المرأة الجزائرية التي تحدت القيود.
رحلت زوليخة لواج مبكرًا، لكن صوتها ظل حاضرًا، كأنه صدىً ممتد من زمن التحدي والإصرار. لم تكن حياتها الطويلة حكاية مكتملة، لكنها تركت من البصمة ما يكفي لتكتب اسمها في سجل الخالدين.
بقيت أغانيها تتردّد في البيوت والمقاهي والذاكرة الشعبية، شاهدةً على شجاعة امرأة سبقت عصرها، وغنّت للحب والوطن والكرامة.
وإذا كان العمر قد خانها سريعًا، فإن الفن أنصفها طويلًا؛ إذ خلدتها الجزائر وصارت “زوليخة” رمزًا لامرأة قاومت بالصوت، ورحلت بالجسد، لكنها استقرت في الوجدان إلى الأبد.