اسماعيل خفاجي
في عصر يشهد تحولات جيوسياسية سريعة، يطرح سؤال حاسم: ماذا بعد أن فقدت أوروبا مساحة استقلال قرارات دولها الكبرى، لتصبح السياسة الأمريكية مرشداً أساسياً لها؟ مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2025، أصبحت دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) أمام واقع جديد يفرض عليها “السمع والطاعة” لإدارته، خاصة فيما يتعلق بزيادة الإسهامات المالية لتعزيز الإنفاق العسكري.
هذا التقرير يستعرض التطورات الأخيرة، ويحلل تداعياتها على استقلالية أوروبا، مستنداً إلى مصادر موثوقة وآراء خبراء.
خلفية الضغط الأمريكي
منذ فترة رئاسته الأولى (2017-2021)، كان ترامب ينتقد دول الناتو بشدة لعدم التزامها بهدف الإنفاق العسكري بنسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي (GDP)، معتبراً أن الولايات المتحدة تتحمل العبء الأكبر.
مع عودته، تصاعد الضغط، حيث طالب بزيادة هذا الهدف إلى 5% بحلول عام 2035، معتبراً ذلك “انتصاراً كبيراً” لأمريكا.
في قمة الناتو التي عقدت في لاهاي بهولندا في يونيو 2025، وافق الحلفاء على هذا الهدف الجديد، الذي يعني زيادة إنفاق سنوي بمئات المليارات من الدولارات.
هذا الاتفاق لم يأتِ عفوياً؛ بل كان نتيجة مفاوضات قاسية قادها ترامب، الذي هدد بتقليل الالتزامات الأمريكية إذا لم يتم الامتثال.
وفقاً لتقارير، يشمل الهدف الجديد ليس فقط الإنفاق العسكري الأساسي، بل أيضاً نفقات “متعلقة بالدفاع” مثل تحسين الطرق والبنية التحتية، مما يفتح الباب لـ”محاسبة إبداعية” للوصول إلى النسبة المطلوبة.
على سبيل المثال، وعدت دول مثل بولندا، التي تصرف بالفعل 4.7% من ناتجها المحلي على الدفاع، بدعم أكبر، مما جعلها “حليفاً مثالياً” لترامب في مواجهة روسيا.
هذه الزيادة ليست مجرد أرقام؛ إنها تعكس تحولاً في التوازن، حيث أصبحت أوروبا تتبع توجيهات واشنطن لضمان استمرار الحماية الأمريكية.
تبعية اقتصادية وسياسية
مع هذه التغييرات، يرى محللون أن أوروبا فقدت جزءاً كبيراً من استقلاليتها.
في السابق، كانت دول مثل ألمانيا وفرنسا تتمتع بمساحة أكبر لاتخاذ قرارات مستقلة، لكن الآن، أصبحت السياسة الأمريكية “المرشد” الرئيسي. على سبيل المثال، أعلنت الإدارة الأمريكية في 2025 عن تقليل المساعدات الأمنية لدول أوروبية قريبة من روسيا، مثل دول البلطيق، مما يدفع أوروبا لتحمل المزيد من التكاليف.
هذا الانسحاب التدريجي يأتي مع إعادة تقييم المساعدات الخارجية، حيث يركز ترامب على “إعادة التوازن” لصالح أمريكا.
من الناحية الاقتصادية، تعني الزيادة في الإنفاق العسكري تحويل موارد من الخدمات الاجتماعية والتنمية إلى الدفاع، مما يثير مخاوف داخل الاتحاد الأوروبي.
تقرير من معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) يحذر من المخاطر السياسية لهذا الهدف الجديد، مشيراً إلى أنه قد يؤدي إلى توترات داخلية في أوروبا.
كما أن بعض الدول، مثل إسبانيا، وافقت على الهدف الجديد رغم تحدياتها الاقتصادية، مما يعكس “الامتثال” لضغوط ترامب.
من جهة أخرى، يدافع مؤيدو ترامب عن هذه السياسة، معتبرين أنها تعزز الأمن الجماعي. السناتور ماركو روبيو وصف الاتفاق بأنه “انتصار تاريخي”، مشيراً إلى أن ترامب نجح في دفع الحلفاء للمساهمة أكثر.
وفي منشورات على منصة X، يشيد بعض المستخدمين بترامب لزيادة الإنفاق من 2% إلى 5%، معتبرين أن ذلك يقوي الناتو بدلاً من تدميره.
بين القلق والتفاؤل
يحذر خبراء مثل تيموفي ميلوفانوف، رئيس مدرسة كييف للاقتصاد، من أن تقليل المساعدات الأمريكية قد يضعف دولاً على حدود روسيا، مما يجبر أوروبا على الاعتماد أكثر على قرارات واشنطن.
في المقابل، يرى آخرون، مثل تقرير من مؤسسة هيريتيج، أن الهدف يجب أن يصل إلى 3.5% على الأقل لضمان الالتزام بالدفاع. ومع ذلك، يظل السؤال: هل هذا يعني فقدان أوروبا لسيادتها، أم هو مجرد تعديل ضروري في عالم متعدد الأقطاب؟
مستقبل غامض للعلاقات عبر الأطلسي
مع استمرار إدارة ترامب في فرض شروطها، يبدو أن أوروبا دخلت مرحلة جديدة من التبعية، حيث أصبحت قراراتها الاستراتيجية مرتبطة بإرادة واشنطن.
زيادة إنفاق الناتو إلى 5% قد تعزز الأمن، لكنها تثير تساؤلات حول استقلالية القارة.
في النهاية، قد يكون هذا التحول خطوة نحو توازن جديد، أو دليلاً على تراجع نفوذ أوروبا في العالم. الوقت وحده سيحدد إذا كانت هذه “الطاعة” خياراً أم إجباراً.