حريق مفاجئ ؛ اشتعل على منصات التواصل الاجتماعي ؛ بدأت شرارته الأولى بشأن داخلي مصري: شائعة إقالة حكومة مصطفى مدبولي ؛ وإسناد تشكيل الوزارة لكامل الوزير .. وشأن كل تعديل وزاري ؛ تطرح أسماء وتغيب أسماء ؛ لا على سبيل الجزم والحسم ؛ بل جسا لنبض الناس ومدى تقبلهم للتغيير الذي قد لا يحدث أصلا!! مع طرق مصر لأبواب الانتخابات البرلمانية القادمة خلال ثلاثة أشهر .
وقد نالت “الشائعة” نصيبا وافرا من الرفض ومن القبول للمرشح الجديد .. وإن بدا الاتجاه الغالب يصب في ارتياح الناس لفكرة التغيير الوزاري.
لا جديد في هذا السيناريو المرتبط بالشائعة ..لكن الجديد تطوره إلى دائرة أوسع : اختيار أمين عام لجامعة الدول العربية بعد أحمد أبوالغيط المنتهية مدته..وربطت مقولات مواقع التواصل الاجتماعي بين تغيير مدبولي كرئيس للوزارة ؛ وتوليه منصب الأمين العام.. وهنا يبدو هذا “الذيل” من ذيول الشائعة مثيرا للتساؤلات المحتدة: فمدبولي مهندس ..والعادة أن يتولى أمانة الجامعة رجل سياسة خارجية ؛ أي وزير خارجية ؛ ولا أظن توجه الجامعة قد تغير لينحصر في العمل الاقتصادي!! فكيف يحدث هذا؟! وهل تستطيع السياسة المصرية تمرير هذا الاختيار لبقية الأقطار العربية ؟!
انتقل الجدل لدائرة أخرى ؛ بإثارة أحد المواطنين السعوديين ؛ بل ومواطن مصري كذلك !! اختيار أحد السعوديين للمنصب المرتبط بدولة المقر .. وبناء عليه يجري نقل المقر من القاهرة إلى الرياض أو غيرها من مدن المملكة!
من هذا الطرح طلت الفتنة برأسها !! واستشرت حالة الهجوم على الدولة الشقيقة وعلى قياداتها ؛ وخاصة محمد بن سلمان .. وفي مثل هذه الأجواء تنشط الخلايا الصهيو. نية المعادية لمصر والعرب ؛ لتوسيع هوة الخلاف بين الأهل والأخوة والأبناء .. بل ليس بعيدا أن تكون الشرارة الأولى قد قدحتها يد الأعداء وتغذيها بانتظام ؛ مع دخول ذوي النيات الطيبة والحماس الوطني من البسطاء على خط “المعركة الوهمية” هذه !!
الجامعة .. مشروع قومي!!
لكن إعمال الرأي والحكمة ؛ يدعونا إلى تذكر أن مشروع الجامعة العربية نفسه “مشروع قومي” ؛ أي قائم على فكرة(القومية العربية) التي أراد المحتل الانجليزي حينذاك الإفادة منها في مواجهة المد الشيوعي عقب الحرب العالمية الثانية.. والفكرة القومية هذه هي طرف نقيض من فكرة تبنتها الدولة السعودية ؛ وهي (الأمة الإسلامية) ؛ اعتمادا على وجود مكة المكرمة والمدينة المنورة كبلاد حجازية داخل حدودها المستحدثة ..فما المملكة الشقيقة سوى نجد والحجاز والربع الخالي وبعض مناطق وتجمعات الشيعة .. وكان تبني عبدالناصر للفكرة القومية تلك سببا من أسباب الخلاف المصري السعودي ؛ الذي كان دائما تحت السيطرة ؛ ودون مستوى التصادم؛ وسوف يظل هكذا دائما تحت السيطرة ؛ ولو كره الأعداء !!
المنطق السياسي ومقتضيات التاريخ تؤكد – إذن – أن الجامعة العربية – القومية – تحتضنها مصر أم هذه القومية ؛ وأن الفكرة الأخرى :(الأمة الإسلامية) دائرة بعيدة عن هذه الجامعة ..هي الآن منظمة التعاون الإسلامي ؛بمقرها السعودي وأمينها الذي تحسم اختياره دائما السعودية. فلا بديل عن استقرار الوضع الذي أكدته الجامعة العربية والأحداث التالية لنشأتها منذ الأربعينيات ..لتظل في حضن النيل ؛ وبأمين عام مصري ؛ ينبغي حسن اختياره ..لأن لأعضاء الجامعة رأي في هذا الاختيار ؛ وهذا حقهم..
والواقع الحتمي والمنطق السياسي هذا ينبغي ألا يخضع لمؤامرات تفتيت العرب ؛ وإضعاف صخرة القوة العربية ؛ بل ومعقل حماية الإسلام : مصر ؛ التي لا تتلوث أرضها أو سماؤها أو مياهها بوجود عسكري لأي عدو.. فصراعنا مع العدو الغربي لم يتوقف منذ الحروب الصليبية التي تصدت فيها مصر للمحتل الصليبي في بلاد الشام لحوالي قرنين من الزمان..حتى حسمت المعركة بتحرير بلاد الشام ؛ وفي القلب منها بيت المقدس..ولم ينته العداء بين مصر والغرب منذ ذلك الزمان ؛ وقبل أن تنشأ ممالك وإمارات ومسميات عربية كثيرة بمئات السنين.
من يمثل الغرب الآن في هذه المواجهة هو دونالد ترامب الذي لا يسعى لنهب ثروات العرب والمسلمين في بلاد الخليج العربي فحسب ؛ بل يريد استعداء بعض الخليجيين على – ولا أقول الشقيقة الكبرى – بل على الأب والأم : مصر .. ويريد إحداث قطيعة ؛ فتنة؛ هوة؛ بين الخليج من ناحية والمغرب العربي من ناحية ؛ ومصر – القلب- بعد أن تدهورت أحوال بلاد الشام وعاد الغرب لاحتلالها تحت الواجهة الصهيو .نية : فلسطين محتلة ؛ سوريا مفتتة منهارة؛ لبنان ضائع ..ولم يبق غير الأردن الملاصق لمصر ؛ والمدعوم منها بقوة.
لا أراني متشائما لهذا الوضع المقلق ..فالعرب ؛ يوما ما – منذ ما قبل الإسلام وبعده – لم يجمعوا أمرهم على رأي واحد !! كثيرا ما يفكرون بعقل القبيلة!! لكن منذ أن تولت مصر شأنهم عام ٦٥٦ هـ ؛ بعد سقوط بغداد على أيدي التتار ؛ ظلت هوية العرب والإسلام محفوظة : تقوى حينا وتضعف حينا ؛ لكنها قائمة.
العرب .. مصريون !!
ولست متشائما من فعل الأبناء وتمردهم على أبيهم !! فكثيرا ما يقال إن الشعب المصري شعب عربي ؛ ونادرا ما يقال : إنه ليس شعبا عربيا!! . لكن الحقيقة التاريخية والعقيدية والثقافية واللغوية التي لم يلتفت إليها أن مصر ليست عربية ؛ بل العرب مصريون !! . فإسماعيل أبوالعرب المستعربة – وهم الغالبية العظمى – أمه هاجر المصرية ..وإسماعيل ابن المصرية تزوج فتاة مصرية .. وإسماعيل – المقيم مع أمه بجوار قبيلة جرهم اليمنية – في مكة ؛ تلقن الهيروغليفية: لغة مصر القديمة من أمه ؛ وعاشها مع زوجته ؛ ونقلها لأبنائه ..مع مؤثرات وتداخلات من اللغة العربية الجنوبية”السامية” : لغة جرهم ..ومن الهيروغليفية كثيرا والعربية الجنوبية قليلا ؛ نشأت (اللغة العربية الحديثة) التي نعرفها الآن ؛ وبها نزل كتاب الله.
*****
العباءة الكبرى للعرب أجمعين : عسكريا ؛ وثقافيا؛ وتاريخيا؛ ونسبا ؛ ودما هي مصر ..فلا تخدشوا عظمتها بصغائر الأفعال؛ فتأكلكم نسور الغرب الجارحة!!
كاتب صحفي مصري