( باخوس ) المذكور في المقال ليس هو ذلك الذي ورد في ميثلوجيا الأغريق، قبل معرفة البشر لديانات التوحيد ، ومنذ آلاف القرون بادر قدماء اليونانيين في تفسير الظواهر الطبيعية، وجعلوا لكل ظاهرة الهاً يرمزون به الى قوة بطشها، أو حنو قلبها.
تفسير الظواهر الطبيعية كان مرحلةً من مراحل تعامل الإنسان مع البيئة، فتعامل الإغريق مع الظواهر، وجعلوا لكل ظاهرة طبيعية الهاً، هذا اله للمطر، وآخرٌ للنار، وثالثٌ للحب والجمال، وللخمر الهً يسمونه ( باخوس ). و ذكر الشاعر السوداني صلاح أحمد أبراهيم، باخوس في قصيدته ( مريا ) بقوله: – ليتني كنت في قمة الأولمبِ جالس.
وحوالي العرائس احتسي خمرة باخوس النقية.
وإذا ما سرت النشوة فيَّ أتداعى وانادي..
يا بنات نقروا القيثارة في رفقٍ وهاتوا الأغنيات لمريا.
إذا كان ( باخوس ) عند الإغريق هو اله الخمر والنشوة فإن ( باخوس ) السوداني يجئ مشتقاً من كلمة ( تبخيس )، ويمكن أن نقول ( باخوس ) مفردة وجمعها مبخسين، وفي العامية نقول ( مبخساتية)،. (المبخسون) شريحة من الناس، يرفضون كل شيء، ويقفون ضد كل شيء كذلك، ولا يعجبهم ” العجب ولا الصيام في رجب، بل يقضون جل أوقاتهم في التفتيش والبحث عن النواقص والعيوب، وما أن يجد ” أرخميدسهم ” كنزه، حتى يخرج علينا شاهراً هتافه ” وجدتها، وجدتها” فتكبر الفكرة في دماغه، ويسقيها من خياله الخصب.
إن التبخيس ظل ينتشر في السودان يوماً بعد يوم، ويتولد دون شك حالة السخط، والرفض، التي وصلت حد ” التنمر”، ويستغل المتنمرون وسائط التواصل الاجتماعي التي فتحت أزقتها واسعةً لكثير من المتسكعين والمتسكعات الذين لا يغمض لهم/ن جفنٌ إلا حين يجدون مادةً يومية للهزء والسب والشتم والضحك. نعم، لا تزال منجزات الفترة الانتقالية دون الطموح، وهو طموح سقفه مرتفع، ومسنود بأعمدة متينة عمادها كبير الأمنيات، وعظيم الأحلام، هي أحلام مشروعة تفجرت الثورة من أجل تحقيقها.
إن هدف أي ثورة هو تغيير حياة الناس إلى الأفضل بعد أن تذوقوا طعم وجراحات، ودلقوا دماءً طاهرة، سقوا بها ورد الأماني العذبة، ولكن كثيراً ما تتساقط أوراق الأحلام بعد الثورات، فيتحول أيقاع الثورة المتصاعد إلى إيقاع هابط نحو الأسفل، ويظهر مؤشر الهبوط كلما ارتفع معل نسبة البطالة، وزاد الاحساس بسرقة الثورة، وتدخل في هذا المنعطف حملات إعلامية مضادة، وسط غيابٍ تام لخطاب سياسي وإعلامي يعمل على ضبط إيقاع المرحلة. تظهر بعد كثيرٍ من الثورات مشاعر سالبة ومؤذية عندما يتم هدر كل الطاقات الإيجابية بتحويلها الى طاقات سلبية تتجه نحو الهدم بدلاً عن البناء، فتتمدد مساحات الفراغ التي تتسلل إلى مفاصلها النزاعات الشريرة، وتدخل كثير من المجتمعات بعد الثورات حالة (اكتئاب جماعي).
بلا شك أن النظام السابق أسس عبر ثلاثين عاماً لثقافة التبخيس، والتبخيس ثقافة اقصاء غير مباشر، وعملية ازاحة كل ما تعتبره ناجحاً عن الطريق، و طبيعي أن تزدهر وسط هذه الأجواء مشاعر الأنانية وحب الذات والنرجسية.
والمشاعر السالبة هي حصاد لما تم زرعه خلال أزمنة الاستبداد، حيث تعمد النظم المستبدة إلى ” إجراءات تحطيم المعنويات، وتهدف الى إشعال التناقضات والاختلافات بين القوى ذات التوجهات السلبية المعادية، وتنشط الأجهزة الاستخبارية وسط الجماعات المتناقضة والمتضاربة في مصالحها، مثلما تجتهد الأنظمة الإيدويلوجية المتطرفة كالنظام الإسلامي في السودان في عملية إعادة صوغ المجتمع، وفي ترسيخ مشاعر اقصاء الآخر ، وتضخ شعارات مشحونة العنف اللفظي على شاكلة ” ترق كل الدماء”. يشير الفيلسوف الفرنسي جوستاف لوبان، في كتابه المثير للجدل ، سيكولوجية الجماهير ” حين تكون السلطة غير منطقية, أو غير شرعية, أو استبدادية, أو فرعونية, حينئذ تسود ديناميات مرضية مثل الكذب والخداع والنفاق والعدوان السلبي واللامبالاة من جانب الجماهير”.
وسعى طبيب علم النفس المصري الدكتور مصطفى حجازي، إلى التأسيس النظري لـ ” سيكولوجية الإنسان المقهور ” ويرى أن الشعور باليأس والاحباط أمراً طبيعيا ،تمر به كل الشعوب التي عانت من الاضطهاد والقهر، وخلال مثل هذه الفترات في تواريخ الشعوب، و التي قد تمتد فترات طويلة نسبياً ، يشعر الفرد بصعوبة التغيير، وعدم جدوى ضياع الوقت في مقاومة السلطة الباطش” و مع أن الإنسان يبدأ في التخلي عن المشاعر السلبية خلال أزمنة الثورة وتشكّل الكتلة الحرجة، فيخرج الثوار أجمل ما في النفوس من قيمٍ وسمات ومشاعر مثل حب الغير، الايثار، التضحية ولو بالنفس؛ لكن سرعان ما تتبدل تلك المشاعر الى ضدها، فيشعر الناس باليأس وعدم جدوى التغيير، وأن قيصر الذي جاء لا يختلف عن قيصر القديم! وفي غياب المشروع الوطني الحقيقي، والخطاب السياسي الجاذب يتمدد الفراغ، وتتحول مبادئ التغيير إلى لعبة كراسي، وتصطاد قوى النظام القديم في المياه الراكدة والملوثة، فلا صوت يعلو على صوت ( آل باخوس) يظنون أن انتصار أي شخص خصماً عليهم، وأن نجاح الآخر فشلُ لهم، فيدخلون أزقة وسائط التواصل للتسكع والاساءات وتكسير المجاديف.
إن انتقاد الحكومة في حد ذاته يعد ظاهرة صحية، وأن انتقاد الحكام والمسؤولين أمرٌ ضروري ومطلوب حتى يجتهدوا ويسارعوا في تحويل شعارات الثورة، حرية سلام وعدالة، إلى واقعٍ ملموس. ومن حق أي مواطن مطالبة الحكام بتهيئة المناخ الصحي والمساعد في توفير متطلبات الحياة الكريمة؛ من ماءٍ نظيف، صحة، كهرباء وتعليم، في وقت لا يمكن لشخصٍ عاقل أن يجادل حول ضعف الأداء الحكومي، ودخول حاضنتها السياسية في حالة سباتٍ عميق.
اذا كان النقد في جوهره ظاهرة صحية وصحيحة، إلا أن طريقة النقد ستحدد جدواه، أو تكشف خطورته، بل ستعري سلبياته. سيكون مثل جدل أهل البقرة، ولا يختلف عن حكاية بني إسرائيل مع النبي موسى عليه السلام مثلما ورد في القرآن الكريم، في سورة البقرة، ويقول سبحانه العليم «وإذا قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين” ليستمر الجدل فيقولوا ” ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون” ثم يطرحون سؤالاً يظنونه تعجيزاً ” ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين” ولا يكتفون بذلك بل يستمرون في أسئلتهم لا بغرض المعرفة أو الفهم، بل بغرض التعجيز” ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقى الحرث مسلمة لا شية فيها ”
، وقصة البقرة لا تختلف عن قصة جحا وابنه وحماره في سوق الله أكبر، و في فضاءاتنا العامة والسياسية. بعيداً عن نقد الحكومة المطلوب دون شك، فأن ظاهرة ( التبخيس ) صارت سمةً ملازمة في خطابنا الإعلامي حتى أوشكت أن تكون هي السمة المسيطرة، بل سوف تغرق كثيراً من القيم والسمات داخل آبار الصرف الصحي لكثير من الوسائط، يغرق الأمل، ويقتل الأحلام، ويكسر مجاديف الطامحين.
يظهر مغني ما، فيتبارى أناسٌ في تقليب ملابسه، ويحددون له شكله الذي يجب أن يكون عليه، دون أن ينسوا السخرية من لون حذائه، و يشارك منتخب نساء السودان، في منافسة خارجية في كرة القدم، فيتعرض الفريق لهجمات واصابات أشد إيلاماً من وقع اصابات أدخلها الخصوم في شباك بناتنا، فتثقل عليهن الأحمال التي تنوء من حملها الجبال الرواسي ، إن ما تتعرض لهن الفتيات الوديعات يكفي لتحطيم جبلٍ أشم، ناهيك عن معنويات شابة صفيرة السن. مع أن التبخيس سمة موجودة في كثير من الأمم التي خلت، والأمم الحاضرة، إلا أن هذه السمة تتمدد في تجاويف كل فراغات الخطاب السياسي والفكري، ويمكن أن تصبح من أخطر معاول هدم الفترة الانتقالية من خلال تثبيط الهمم، محاربة النجاحات، قتل الطموح وهو جنين.
هنا نقرع الأجراس للحكومة الانتقالية وللقوى السياسية ولمنظمات المجتمع المدني لأن ( آل باخوس ) ما ظهروا في بلادٍ إلا هدموا ما تبقى منها، وقطعوا كل أغصان الأحلام الخضراء، واذا كان ( باخوس ) الإغريق رمزاً لنشوة السكر، فباخوس السوداني رمز لنشوة الروح الشريرة.
كاتب صحفي سوداني faizalsilaik@gmail.com