دكتور حمدي عبد الرحمن يكتب: استراتيجية إعادة التموضع الأوروبي في إفريقيا

في ظل التطورات الأخيرة بمنطقة الساحل الإفريقي، حيث تظل الأنظمة العسكرية غير مستقرة على الرغم من الدعم الشعبي الظاهري، يُصبح من الضروري تقييم استراتيجيات الاتحاد الأوروبي وإعادة توجيهها. ففي حين أن هناك جهوداً من دول أوروبية بشكل منفرد لتعزيز التعاون مع إفريقيا على أسس جديدة أكثر عدالة، إلا أن النقاد يحذرون من أن هذا الاقتراب الجديد لا يتعدى الشكل دون الجوهر، كما يتضح من الفجوة بين الخطاب والعمل في سياسة فرنسا في منطقة الساحل. إضافة إلى ذلك، قد لا تكون هذه الجهود كافية للاستجابة للتغيرات الجيوسياسية التي تجري حالياً في الساحل وغرب إفريقيا.

لقد أصبحت روسيا أول دولة تعترف بتحالف الساحل الذي يضم كلاً من مالي والنيجر وبوركينا فاسو بعد اجتماع وزراء خارجية البلدان الثلاثة مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في موسكو أوائل إبريل 2025. ولا يخفى أن مثل هذا التعاون يمكّن الكرملين من تحقيق أهدافه المتمثلة في إزاحة النفوذ الغربي في إفريقيا، وتأكيد نفسه كقوة عظمى متجددة، وخلق فرص لتهديد الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي.

ويحاول هذا المقال مناقشة استراتيجية إعادة التموضع التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي في إفريقيا، والتي تسعى إلى تحقيق توازن بين الحزم والمرونة، والتركيز على المصالح المتبادلة، وتجنب تكرار أخطاء الماضي، مع الأخذ في الاعتبار التحولات الجيوسياسية المتغيرة في المنطقة. ولعل ذلك يرتبط بمقاربتين أساسيتين تتعلق أولاهما بمبادرات أوروبية جديدة، أما الثانية فتركز على سياسات بعض الدول الأوروبية التي تتخذها بشكل منفرد. بالإضافة إلى ما تمثله “الترامبية الجديدة” من فرص وتحديات.

هل المبادرات الأوربية.. كافية؟

في سياق التحديات المتزايدة التي تواجهها منطقة الساحل، تبرز أهمية تقييم مبادرات الاتحاد الأوروبي الرامية إلى تحقيق الاستقرار والتنمية في المنطقة؛ إذ لايزال الاتحاد الأوروبي شريكاً رئيسياً لإفريقيا، وقد أطلق العديد من المبادرات لدعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. ومع ذلك، يظل السؤال المطروح: هل هذه المبادرات كافية لمواجهة التحديات المعقدة في المنطقة؟

على سبيل المثال، تمثل مبادرة “البوابة العالمية GGI” استراتيجية طموحة للاتحاد الأوروبي؛ تهدف إلى تعزيز البنية التحتية العالمية والتنمية المستدامة. وتسعى هذه المبادرة من خلال تمويل قدره 300 مليار يورو، منها 150 ملياراً مخصصة لإفريقيا، إلى منافسة مبادرة “الحزام والطريق” الصينية. بيد أن المبادرة الأوروبية تتميز بتقديم منح بدلاً من القروض؛ الأمر الذي يمكن أن يوفر ميزة تنافسية من خلال تجنب تراكم الديون التي أثارت قلق العديد من الدول الإفريقية. كما أنها تلتزم  بالمعايير الدولية البيئية والاجتماعية لضمان الاستدامة، إضافة إلى نهج “فريق أوروبا” الذي يسعى للاستفادة من الخبرات والموارد الجماعية للجهات الأوروبية.

وعلى الرغم من ذلك، تواجه المبادرة تحديات وانتقادات، حيث يرى البعض أنها مجرد إعادة تغليف للأموال المخصصة بالفعل؛ مما يقلل من تأثيرها الإضافي. كما أنها تواجه منافسة شرسة من مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، التي تتمتع بنفوذ واسع في إفريقيا؛ وهو ما يجعل نجاحها يتطلب تنفيذاً فعالاً وتنسيقاً جيداً بين الجهات الأوروبية والدول الإفريقية الشريكة.

من جهة أخرى تُعد الشراكة بين إفريقيا والاتحاد الأوروبي إطاراً استراتيجياً للتعاون متعدد الأطراف؛ يهدف إلى تعزيز المصالح المشتركة، وفي نفس الوقت مواجهة التحديات المشتركة. وتشمل هذه الشراكة مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة، بما في ذلك الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي، والمنظمات غير الحكومية، والقطاع الخاص، وهيئات الشباب. وتتميز هذه الشراكة بالشمولية، حيث تجمع بين مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة؛ مما يعزز التنسيق والتعاون. كما أنها توفر إطاراً استراتيجياً للتعاون في مجالات مثل السلام والأمن، والحكم الرشيد، والتنمية الاقتصادية، والتغير المناخي.

إلا أن هذه الشراكة تعاني من البيروقراطية والتعقيد؛ مما يعوق التنفيذ الفعال، كما أن التمويل غير الكافي يحد من قدرتها على تحقيق أهدافها. ويرى البعض أن أسلوب الاتحاد الأوروبي في التعامل مع إفريقيا ككتلة واحدة يتجاهل الخصوصيات الوطنية للدول الإفريقية؛ مما يؤدي إلى اتفاقيات غير قابلة للتنفيذ بشكل كامل، كما شهدت الشراكة تراجعاً في تأثيرها في السنوات الأخيرة بسبب التغيرات الجيوسياسية العالمية.

في ضوء هذه التحديات، هناك حاجة إلى إعادة تقييم شاملة للشراكة بين إفريقيا والاتحاد الأوروبي؛ إذ يصبح من المأمول أن تهدف هذه العملية إلى جعل الشراكة أكثر فعالية وشمولية واستجابة للاحتياجات والأولويات المتغيرة في كلتا القارتين.

مدى استدامة الحلول الأحادية

من المفارقات غير الخافية أن إيطاليا واصلت التعاون مع السلطات القائمة في النيجر، مدفوعةً بمنهج عملي ومصالحها الوطنية. وقد تجسد ذلك في استمرار بعثة الدعم والتدريب العسكري الثنائية (MISIN)؛ مما يجعلها الدولة الغربية الوحيدة، باستثناء روسيا، التي تمتلك حضوراً عسكرياً في النيجر. ولعل هذه الخطوة تعكس أهمية النيجر كمعبر حيوي للهجرة غير النظامية إلى أوروبا، بالإضافة إلى مساعي روما لمعالجة التحديات الأمنية الأوسع، مثل تهريب السلع وتفاقم العنف الجهادي. ومع ذلك، يثير هذا المسعى الإيطالي المستقل قلقاً بشأن تقويض التوجهات الأوسع للاتحاد الأوروبي، الذي يعتمد على ربط المساعدات بالتقدم الديمقراطي والحكم الرشيد. كما يتناقض هذا النهج البراغماتي مع معايير الاتحاد الأوروبي، ويقترب من سياسات روسيا والصين التي تتجاهل هذه الشروط؛ ومن ثم تواجه حكومة جورجيا ميلوني انتقادات لتحديها الإجماع الأوروبي الذي فرض عقوبات على قادة الانقلاب في النيجر؛ مما يقوض مصداقية الاتحاد الأوروبي في دعم الديمقراطية.

وعلى نحو مفارق، قد يخدم هذا التباين مصالح الاتحاد الأوروبي. فمن خلال إيطاليا، يحتفظ الاتحاد بوجود رمزي في المنطقة. بيد أن الصعوبات المالية تدفع رئيسة الوزراء الإيطالية ميلوني إلى البحث عن دعم متعدد الأطراف لخطة “ماتّي” الطموحة من أجل إفريقيا، وهي مبادرة تهدف إلى تعزيز دور إيطاليا في إفريقيا عبر مشاريع اقتصادية وأمنية. وقد لاقت هذه الخطة، التي تتبنى مقاربة مغايرة، ترحيباً حذراً من القادة الأفارقة في القمة الإيطالية الإفريقية الأخيرة في روما. كما تتقاطع أهدافها مع مبادرة “البوابة العالمية” للاتحاد الأوروبي؛ مما يشير إلى إمكانية دمجها لتقليل المخاطر المرتبطة بالعمل الأحادي وتخفيف الأعباء المالية.

ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أيضاً مشاركة المجر. فقد عمّقت بودابست علاقاتها الثنائية مع تشاد، ولا سيما منذ عام 2023، مع التركيز بشكل خاص على التعاون في القطاعين العسكري والزراعي. ففي نوفمبر 2023، وافقت الحكومة المجرية على إرسال بعثة عسكرية قوامها 200 جندي إلى تشاد؛ بهدف تعزيز الاستقرار الإقليمي من خلال إدارة الهجرة ومكافحة الإرهاب والدعم الإنساني.

نظراً للعلاقة الوثيقة بين بودابست وموسكو، وعلى النقيض من ذلك، العلاقات المتوترة بين الرئيس المجري فيكتور أوربان وقيادة مفوضية الاتحاد الأوروبي، يتحدث بعض المراقبين عن “مشهد دبلوماسي معقد” ستُنفذ فيه المهمة. إضافة إلى ذلك، فمن المرجح أن تواجه المجر معارضة من دول أخرى في الاتحاد الأوروبي. ويزداد هذا التعقيد بعد إنهاء الاتفاقية العسكرية بين نجامينا وباريس وانسحاب القوات الفرنسية. وقد روّجت دول أوروبية أخرى مؤخراً لطريق جديد للتعاون العادل والمفيد للطرفين، القائم على المساواة. ففي عام 2023، اعتمدت الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية خطة بعنوان “صياغة المستقبل مع إفريقيا”، تدعو إلى “شراكة قائمة على الاحترام والمعاملة بالمثل” و”بناء حوار منفتح وصادق”.

ولا شك أن هذا التباين في المواقف الأوروبية تجاه دول الساحل يثير تساؤلات حول مدى التزام الاتحاد الأوروبي بقيمه الأساسية، ويقوض مصداقيته كجهة فاعلة موحدة في السياسة الخارجية. فمن خلال تجاهل الانقلاب العسكري في النيجر والحفاظ على التعاون الثنائي؛ فإن إيطاليا تتحدى أجندة الاتحاد الأوروبي التي فرضت عقوبات على أعضاء المجلس العسكري وأدانت الانقلاب.

مع ذلك، قد يكون لهذا النهج الأحادي بعض الجوانب الإيجابية. فمن خلال الحفاظ على قنوات الاتصال مع الأنظمة العسكرية، يمكن للدول الأوروبية أن تحافظ على نفوذها في المنطقة وتعمل على تخفيف حدة الأزمة. كما أن هذا الأسلوب قد يسمح للدول الأوروبية بالاستجابة بشكل أكثر مرونة للاحتياجات الخاصة بكل دولة في منطقة الساحل.

ولكن يبقى السؤال: هل يمكن للأسلوب الأحادي أن يكون حلاً مستداماً للتحديات المعقدة التي تواجه منطقة الساحل؟ وهل يمكن للدول الأوروبية أن توازن بين مصالحها الخاصة والتزاماتها تجاه الاتحاد الأوروبي وقيمه الأساسية؟ هذه الأسئلة تتطلب المزيد من النقاش والتحليل لضمان أن تكون استراتيجية أوروبا في منطقة الساحل فعالة ومستدامة وقائمة على القيم المشتركة.

فرصة “الترامبية الجديدة”:

يُمثل صعود تيار الترامبية الجديدة بنزعته المحافظة فرصةً سانحة لتعزيز العلاقات الأوروبية الإفريقية. ومع احتمال تراجع تركيز الولايات المتحدة على التعددية ومساعدات التنمية، يُمكن لأوروبا أن تُعزز مكانتها كشريكٍ موثوقٍ به للدول الإفريقية، ولا سيما من خلال التركيز على التجارة والاستثمار والمصالح الأمنية المشتركة. وقد يشمل ذلك الاستفادة من المبادرات القائمة التي سبق ذكرها، مثل “البوابة العالمية”، لتقديم بديلٍ مُقنعٍ للاستثمار الصيني، مع إبراز التزام أوروبا بالقيم الديمقراطية والتنمية المستدامة، على عكس السياسات المُحتملة لإدارة ترامب الجديدة. ومع ذلك، تتطلب هذه الفرصة أيضاً دراسةً دقيقةً للتوترات الأطلسية المُحتملة، وبذل جهدٍ استباقي لضمان توافق أي مشاركة أوروبية مع الأولويات الإفريقية، وتحقيق شراكاتٍ طويلة الأمد وعادلة.

ختاماً، يبقى مستقبل الوجود الأوروبي في إفريقيا على المحك، بين تحديات القارة المعقدة والنفوذ المتزايد لروسيا والصين واحتمال تراجع الحضور الأمريكي. وللتعامل مع هذا المشهد المتغير، يجب على الاتحاد الأوروبي تجاوز المقاربات التقليدية التي عفا عليها الزمان، وتبني شراكات حقيقية مبنية على الاحترام المتبادل والمنفعة المتبادلة. وهذا يتطلب الاعتراف بأخطاء الماضي، وإعطاء الأولوية للدور والوكالة الإفريقية، وتكييف الاستراتيجيات مع السياق الخاص لكل دولة على حدة. ولعله من خلال تعزيز الشفافية والاتساق والاستعداد لتحدي الافتراضات والصور الذهنية المسبقة؛ يمكن للاتحاد الأوروبي أن يأمل في بناء دور أكثر استدامة وتأثيراً في إفريقيا، دور يُسهم في تحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة في مواجهة تفاعلات القوة العالمية المتغيرة.

نشرت في مركز دراسات المستقبل

أ. د. حمدي عبدالرحمن استاذ العلوم السياسية بجامعة زايد، الإمارات العربية المتحدة

عن وجه افريقيا