سوريا: ما دور المتغيرات الجيوسياسية في زعزعة فصائل المعارضة للخطوط الأمامية لنظام الأسد؟

    القاهرة /  محمد خليل

بعد إعلان فصائل المعارضة السورية شن هجوم مباغت على قوات نظام بشار الأسد، تواصل الجمعة إحراز تقدم ملحوظ والسيطرة على مدن استراتيجية، ما ينذر بتغييرات جيوسياسية ويعزز احتمالات تعقيد الأزمة وتقليص مساحة العمل الدبلوماسي. هذا السقوط السريع والمتتالي للمدن والبلدات يعزى وفق مراقبين إلى عدة عوامل، أبرزها حالة الضعف البنيوي التي يعيشها النظام، واستقواء الفصائل المسلحة وإعادة رص صفوفها، ثم تأثير الأطراف الخارجية، ناهيك عن الأزمة الإنسانية المستمرة.

تتسارع الأحداث في سوريا ويزداد معها المشهد السياسي والعسكري غموضا وتعقيدا، ما يشير إلى بداية مرحلة جديدة في الحرب المستمرة منذ نحو 13 سنة وينذر بنسف المسار السياسي من أجل تحقيق سلام عادل وإنهاء الأزمة الإنسانية.

ففي خطوة مفاجئة تنذر بتصاعد حدة الصراع، شنت فصائل المعارضة المسلحة بسوريا هجوما في 26 نوفمبر/تشرين الثاني انطلاقا من عدة مناطق نحو الشمال والشمال الغربي من مدينة حلب التي أعلنت السيطرة عليها في 29 و30 من نفس الشهر، مما أجبر القوات الحكومية على الانسحاب.

وهذه هي أول مرة تتغير فيها السيطرة على المدينة منذ عام 2016 عندما هزمت القوات الحكومية، بدعم من روسيا وإيران، المعارضة التي كانت تسيطر على المناطق الشرقية من حلب.

بعدما ظلت المعارضة لسنوات حبيسة خلف خطوط مواجهة جامدة، شنت تقدُّما هو الأسرع الذي يحققه أي من الجانبين في ساحة المعركة منذ تحول انتفاضة سنة 2011 ضد نظام بشار الأسد إلى حرب أهلية.

تجمدت خطوط المواجهة في الصراع منذ عام 2020، بعد أن استعاد الأسد معظم أنحاء البلاد من المعارضة بفضل مساعدة القوة الجوية الروسية والمدد العسكري الإيراني وشبكاتها من الجماعات المسلحة الإقليمية.

سوريا: الجيش ينفي انسحابه من حمص أمام تقدم فصائل المعارضة

لكن، ومع تقدم الفصائل المعارضة اليوم بشكل ثابت ومتسارع، وسيطرتها على عدد من المدن والبلدات الاستراتيجية، تظهر جليا هشاشة النظام السوري مقارنة بما كان عليه سابقا، وتتأكد بالمقابل إعادة رص الطرف الآخر صفوفه وتنظيم بنيته الداخلية.

متغيرات جيوسياسية

يمكن تفسير السقوط السريع والمتتالي للمدن في سوريا بتداخل عدة عوامل، أبرزها حالة الضعف البنيوي التي يعيشها النظام، واستقواء الفصائل المسلحة، وتأثير الأطراف الخارجية، ناهيك عن الأزمة الإنسانية المستمرة.

خلال معارك السنوات الماضية بين الطرفين، تمكن نظام بشار الأسد من استعادة السيطرة على أجزاء كبيرة من البلاد بمساعدة حلفائه، لا سيما روسيا وإيران. اليوم، وبعد أكثر من عشر سنوات من الحرب، يعاني الجيش من نقص في الموارد والبنية اللوجستية، مما يجعله عاجزا عن الدفاع عن المناطق كافة، خصوصا أمام الهجمات المفاجئة والمنسقة من قبل الفصائل المسلحة. عدا عن ذلك، أدت العقوبات الغربية والأزمة الاقتصادية إلى إضعاف قدرة النظام على إدارة المناطق التي يسيطر عليها، مما عمق مأساة السكان المحليين الذين يعانون من الفقر وتدهور الخدمات الأساسية.

في المقابل، أظهرت الجماعات المسلحة، لا سيما هيئة تحرير الشام (HTC)، قدرة متجددة على استغلال نقاط ضعف النظام. ولعل السيطرة على حلب أكدت وجود تنسيق أكبر وقدرة على تحريك الموارد العسكرية والبشرية بسرعة، مما ساعدها في تحقيق مكاسب ميدانية كبيرة.

بدا واضحا أيضا دور الدعم الخارجي في تحقيق تلك المكتسبات، إذ لا تزال بعض الفصائل تتلقى دعما خارجيا، لا سيما من تركيا، التي تستخدم هذه الجماعات لتعزيز مصالحها الجيوسياسية في شمال سوريا. هذا الدعم يتيح لها الحفاظ على الضغط المستمر على النظام وحلفائه.

ما هي “هيئة تحرير الشام” التي ضربت “عصب الجيش” السوري في حلب وأيقظت مخاوف من حرب جديدة؟

في سياق الحديث عن الدعم، ساهمت المتغيرات الجيوسياسية والأحداث التي تشهدها المنطقة في إضعاف حلفاء النظام السوري، خاصة روسيا وإيران، فبات تركيزهما أكثر على حماية مصالحهما الاستراتيجية، إذ تركز موسكو جهودها على المناطق الساحلية ودمشق، بينما تسعى إيران لتعزيز نفوذها في مناطق محددة، لكنها تواجه قيودا اقتصادية تحد من قدرتها على التدخل في كل الجبهات. فيما تواصل أنقرة تدخلها النشط في شمال سوريا من خلال دعم بعض الفصائل المسلحة أو تنفيذ عمليات عسكرية مباشرة، مما يزيد من تعقيد الوضع ويضعف دفاعات النظام.

أزمة مزمنة

وسط غياب أي حل سياسي قابل للتنفيذ، تزداد الأزمة تعقيدا وتتأجج حدة الصراع. إذ تتعثر الجهود الدبلوماسية، خصوصا عبر الأمم المتحدة، بسبب خلافات جوهرية بين الأطراف الرئيسية. هذا الجمود يؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار المزمن، إذ تستمر كل جهة في محاولة تعزيز مكاسبها على حساب الآخرين.

حسب الصحافي والناشط السياسي عبد الكريم العمر فإن هذا التقدم “جاء بعد سنوات من التخطيط والإعداد والتنظيم والترتيب العسكري والميداني وتشكل الوعي” مضيفا أن “النظام اليوم، وحتى قبل اليوم، يتهاوى ويسقط، وما أبقى استمراره هي الظروف والمعطيات الإقليمية والدولية، من بينها، التدخل الروسي، والموقف الأمريكي والإسرائيلي أيضا”.

حسب المتحدث، فإن “رسم خرائط جديدة لمنطقة الشرق الأوسط بعد حرب غزة ولبنان، والاستهداف الإسرائيلي المتكرر لمليشيات إيران وحزب الله دفع فصائل الثورة السورية إلى القيام بهذا العمل العسكري، عبر غرفة إدارة العمليات التي تضم مختلف الفصائل الثورية المعارضة للنظام، واتخاذ قرار ببدء المعركة، ولعل ما شجعهم على ذلك هو تراجع وانهيار نظام بشار الأسد وقواته وميليشيا حزب الله وإيران في ريف حلب وحلب وحماة، وما يسمى محور المقاومة، تعرض هو الآخر خلال الفترات الماضية إلى انهيارات متلاحقة وسريعة في صفوفه كما أن الاعتماد على الطيران الروسي لم يعد كافيا ومجديا لأنه لم يعد بنفس الكثافة كما في السابق

منعطف حاسم

تمثل السيطرة على حماة، التي تعد رابع كبرى مدن البلاد، نقطة تحول محورية في الحرب بسوريا. فهذا التطور لا يسلط الضوء على هشاشة نظام بشار الأسد فحسب، بل يبرز أيضا كيف قامت الديناميات الإقليمية والدولية الأوسع نطاقا بإعادة تشكيل الصراع. إلى جانب حلب، ثانية كبرة مدين البلاد، والتي ترمز إلى عودة نظام الأسد بعد استعادتها في عام 2016، والتي أضحت مرة أخرى في قلب المعركة.

يعكس تقدم الفصائل المسلحة تغيرات جيوسياسية أعمق ساهم في بلورتها استمرار الحرب بين أوكرانيا، وروسيا أقوى حليف للأسد، ثم المواجهات بين إيران وحليفتها جماعة حزب الله من جهة وإسرائيل من جهة أخرى وسط تصاعد التوترات في منطقة الشرق الأوسط إثر الحرب في غزة ولبنان، التي أدت إلى اهتزاز ميزان القوى الإقليمية بعد تلقي الجماعة اللبنانية المدعومة من إيران ضربات موجعة خلال شهرين من الحرب مع إسرائيل، علما أنها ساعدت الأسد على استعادة حلب.

وفي الوقت نفسه، يرى مراقبون أن تركيا استفادت من الوضع لتوسيع نفوذها في شمال سوريا من خلال استغلال نشاط هيئة تحرير الشام التي تصنفها “منظمة إرهابية”. أدت هذه الديناميات المتداخلة إلى بيئة متقلبة، مما جعل سقوط حلب نقطة تحول حرجة.

انتصار المسلحين في حلب أيضا قد تكون له عواقب بعيدة المدى. إذ من شأنه تعزيز النفوذ الإقليمي لتركيا، من خلال دعم وكلائها، وعلى رأسهم الجيش الوطني السوري، مما يسهل وصولها إلى شمال سوريا. كذلك، وبما أن أنقرة تسعى إلى تقوية مكانتها كوسيط رئيسي، فيمكن أن يعيد هذا التطور تشكيل توازن القوى في سوريا ويعقد الجهود المبذولة للتفاوض على سلام دائم.

من جانب آخر، تمثل التطورات الجارية فرصة استراتيجية لإسرائيل، إذ يمكن أن يؤدي انهيار محور الأسد وإيران وحزب الله في حلب إلى تحويل الموارد والاهتمام بعيدا عن إسرائيل، مما يسمح لها بالحفاظ على الضغط على غزة والجبهات الأخرى حسب الحاجة.

فضلا عن ذلك، فإن سقوط حلب يعد كارثة لنظام الأسد، الذي يواجه احتمال فقدان المزيد من الأراضي وحتى الانكماش في العاصمة دمشق والمناطق المحيطة بها، مما يعزز احتمال تجزئة سوريا، ويشير إلى بداية مرحلة جديدة في الحرب السورية.

وفق الناشط السياسي العمر فقد منحت “البيانات الوطنية التي أصدرتها إدارة العمليات لأهل حلب والمسيحيين بعدد من المناطق ولعموم الشعب السوري وللمجتمع الدولي، وأيضا للعراق وروسيا، نوعا من الاهتمام بدورها وبتوجهها الذي تقول إنه قائم على بناء دولة ديمقراطية لكل السوريين”.

يضيف العمر موضحا أن “الضربات القاضية التي تلقتها قوات النظام وبعض داعميها من قبل إسرائيل ومن التحالف الدولي، وبالتحديد في منطقة البوكمال ودير الزور، لعبت أيضا في صالح قوى الثورة والمعارضة السورية”.

في ظل التطورات الميدانية المتسارعة وتقلص مساحة العمل الدبلوماسي، يكشف انهيار الخطوط الأمامية للنظام التي تم تأمينها بشق الأنفس من قبل روسيا وإيران عن نقاط ضعف كبيرة في نظام الأسد ويثير تساؤلات حول مستقبل الصراع المستمر منذ سنوات.

 

عن وجه افريقيا