أخبار عاجلة

أيمن غالي يكتب : الوجه الآخر .. دراما تشكيلية

يبدو أن الجسد الإنساني مازال هو الشغف الدافع لإبداع الفنان التشكيلي الدكتور أشرف رضا في أعماله الأخيرة، فبعد معرضه الأخير “سكون الجسد” يُطِّل علينا بمعرض جديد عنوانه “الوجه الآخر” وكأنه يحرك عدسته “زوم إن” تجاه الوجه الإنساني ليكشف لنا علاقات تشكيلية جديدة للوجه الإنساني الذي مازال أحد أثرى المفردات الفنية للعديد من الفنانين التشكيليين على مدار التاريخ.

لايكتفي أشرف رضا بالغوص في تشكيل الوجه الإنساني جمالياً إنما يستخدمه كمرتكز بصري لتفكيكات فلسفية إجتماعية ونفسية لها حضورها الغالب على لوحات المعرض، فرغم أن إسم المعرض “الوجه الآخر” يوحي بالفردية لكننا نجد أنفسنا نحلق في فضاءات جمعية أرحب وأوسع.
جاءت البنية المتكررة في لوحات “الوجه الآخر” معتمدة على تقسيم مساحة اللوحة إلى ثلاث مساحات – أعمدة – رأسية (يمين / منتصف / يسار)، اليمين يعادل تقريبا ربع مساحة اللوحة، ثم المنتصف الذي يساوي تقريبا نصف مساحة اللوحة، ثم اليسارفي الربع المتبقي من اللوحة، وهو مايتطابق حرفيا مع تقسيمات مُنظري الدراما الأوائل منذ “أرسطوطاليس” اليوناني في القرن الرابع قبل الميلاد الذي أسس قواعد الدراما المسرحية والروائية وصولا إلى “جوستاف فريتاج” الألماني في القرن التاسع عشر والأمريكي “سيد فيلد” في القرن العشرين في الدراما السينمائية، حيث إستقرت تقسيماتهم للدراما إلى ثلاثة فصول البداية التي لاتتجاوز ربع زمن العرض ثم الوسط الذي يساوي تقريبا نصف زمن العرض والنهاية في الربع الأخير من زمن العرض وهي نفس التقسيمات التي إعتمدتها لوحات معرض الوجه الآخر وهو ما يوشي بحضور البنية الدرامية كملمح فني عام للمعرض.
تتخلق درامية اللوحات بدايةَ من وضعية تقسيمات اللوحة وعلاقات تجاورها في وضع دال على الفعل والحدث الدرامي حيث تضغط الخلفية بقوة من الجانبين على كتلة الوجه الإنساني كشخصية درامية رئيسية لها إيقاع فني ولها خط درامي متصاعد ولها نقاط تطور وتحول وإنعكاس وإنكسار، ونتيجة لهذا الضغط يستطيل الوجه رأسياً فتتحرف ملامحه ثم ينكسر طولياً فينقسم إلى وجهين جانبيين منفصلين في مواجهة بعضهما “الوجه والوجه الآخر”، هذا التتابع الحدثي في حبكة سببية متمثلة في الفعل ورد الفعل يخلق حالة تلقي بصري درامي للأساليب الفنية في اللوحات ودلالاتها الموضوعية.
ففي البداية تتشكل خلفية اللوحات من موتيفات زخرفية أحياناً هندسية عامة وأحيانا أخرى زخارف مصرية شعبية تستدعي الموروث الشعبي فترتبط بالبعد الزماني سواء الحاضر أو الماضي التراثي، وتراكمت ألوانها وتمازجت في تراصٍ لوني رأسي يحاكي طوابق البنايات المعمارية فتشيأت ماديا وتجسدت مكانيا، في إضاءة مُشِعة ذاتيا خلقت نوافذا مضيئة في ليل قمري لتلك البنايات مما يُفسر الخلفية بالبناءات المعرفية لبيئة الإنسان المكانية والزمانية الحاضرة والتاريخية.
يتوسط اللوحات تكوين رأسي قوي لوجه إنساني إستطال رأسيا نتيجة ضغط الخلفية عليه بشدة لدرجة غياب حدود الذقن من الاسفل وحدود الجبهة من الأعلى، فالوجه غير محدد في الإتجاه الرأسي فقد آثر الفنان أن يتركه ممتداً مفتوحاً موازيا لنفس الإمتداد في الخلفية دالاً على إستمرارية المشهد زمانياً في فضاء اللوحة وتحريره من الإرتكاز او الثبات، وتناسخ الألوان والترديد اللوني المتبادل بين الوجه والخلفية يوشي بإرتباطهما فهذا الفرد نتاج بيئته المعرفية الحضارية، لكن يظل التفرد الإنساني الفردي واضحاً في تباين قوة “تون” اللون ودرجة تشبعه ودرجة سطوعه وتباين إنارته عن الخلفية، وتباين أسلوب الرسم بينهما حيث نجد إستخداماً قويا للخطوط المحددة باللون الأسود للوجه الإنساني في حين غابت هذه الخطوط في تمازج وتداخل وحدات الخلفية دون تحديدات، وإستخدام اللون الأسود لوناً ثابتا في خطوط التحديد دال على الفراغ الضوئي وكأن هذا الوجه تَشَكّل كالجنين في فجوة لونية داخل رحم الخلفية، وهو مايفسر سماكة وثخانة الخطين الأسودين المحددين للإطار الخارجي للوجه يمينا ويساراً فيخلقان بينهما مساحة- فجوة – لونية سوداء يتشكل فيها الوجه بخطوط سوداء أقل سماكة.
تلك الشخصية الدرامية القوية والتي صيغت تشكيليا في قالب جروتسكي عميق التاثير بملامح الوجه “المُحَرّفة” وقد تعمد الفنان أن يستخدم فيها أسلوب الرسم بالتحديد الخطي وهو أسلوب إستدعى حضور حالة “الإسكتش” السريع بخطوط تمتاز بالبساطة والإختزال تتحرك في إنسيابية أحيانا وفي حِدة أحياناً أخرى ولّدَت حيوية درامية في إيقاع الحالة الشعورية للوحة بالحضور الإستيعادي للّحظة الإنفعالية الإبداعية للفنان أثناء رسم الإسكتش متوازياً مع المنهج المسرحي البريختي “كسر الإيهام الفني” موقظاً لعقل المتلقي وفكره من سطوة الإندماج الحِسي الكامل مع العرض (اللوحة).
وتتصاعد درامية اللوحة مع تحريف ملامح الوجه في تصويرية تعبيرية ترصد العديد من إحتمالات هذا التحريف الجروتسكي من لوحة لأخرى، ولايكتفي رضا بتعبيرية تحريف الوجه بل غالبا ما يصل به لذروة التصعيد الدرامي حينما يصل لمرحلة كسر الوجه الرئيسي من خلال الخروج بخط الأنف رأسيا خارج حدود اللوحة فيصبح كالشرخ الرأسي الممتد الكاسر لوحدة الوجه الرئيسي فيقسمه إلى نصفين- وجهين جانبيين آخرين منفصلين عن بعضهما، وهو ما أكده الفنان من خلال عكس مواضع الظل والنور بينهما أو تغيير مصدر الضوء بينهما ليصبحا وجهان منفصلان متواجهان في ثنائية الوجه والوجه الآخر، وهو ما يدل على حضور البعد النفسي فرديا وتناقض وهشاشة بنيته النفسية الناتج عن التفكك المعرفي والحضاري على المستوى الجمعي، فالآخر هنا ليس الآخر الخارجي إنما هو الآخر الذاتي سواء الفردي أم الجمعي.
تلك الجدلية الدرامية التي ألقت بظلالها على معرض “الوجه الآخر” للفنان الدكتور أشرف رضا والذي إفتُتح يوم 8 أكتوبر 2024 بقاعة آراك آرت بالزمالك تجربة تشكيلية تخلق حالة درامية عميقة وقوية في بنية وتكوين ساكنين ظاهرياً دون ضوضاء إنفعالية لملامح وجوهه التي آثر الفنان أن يصبها في قالب تجريدي نابض بالإيقاع المتولد من خطوطه السوداء القوية وفي سخونة فكرية تولدت من طبيعة ألوانه وتراكيبها وتمازجها، فمالت تجريديته إلى الملمح التعبيري في تماس ناعم مع التكعيبية في إنقاسماتها وتعدد زواياها مما أثرى الحالة الدرامية المرتكزة على قوة بناء الشخصية الدرامية الرئيسية وصياغتها في قالب جروتسكي وتفتيتها إلى شخصيات منقسمة ذاتيا تخلق جدلاَ فلسفياً يتحول إلى صراع درامي يصل إلى ذروته في حدث صاعد ثم لحظة إنكسارها في حدث درامي هابط ، هي تجربة تشكيلية ثرية وممتعة تستحق الوقوف أمامها بالدراسة والتحليل النقدي بشكل أعمق وأكثر تفصيلا.

 

عن وجه افريقيا