عبد الله محمد عبد الله يكتب:وهل ولّى زمانُ الصنفرة؟

قال لي الأستاذ، اسماعيل عبدالرحيم ضاحكاً (صاحبك ده صوته ما بطال، لكن محتاج مُبرَد و صنفرة)، و اسماعيل، عازف الكمان المخضرم و أستاذ آلاتٍ موسيقيةٍ لا تُحصى، كان الضلع الثالث في مثلث أهل العزم والعلم، الذي شكل قاعدته جمعة جابر وأقام ضلعه الآخر محمد آدم المنصوري.

لم ينل اسماعيل من الشهرة ما نال الآخرين لزهدٍ فيه قد تأصّل ولازمه طوال مسيرته العامرة بشيّق الألحان، تلك التي كان يستخدمها وسيلة لتدريس طلابه في المدارس الثانوية و مراكز الشباب، غير معنيٍ بتسجيلها في الأجهزة الرسمية.

وإسماعيل الذي فارقنا قبل أمدٍ بعيد، كان من أوائل الذين استخدموا إيقاعات الرقص الشعبي المٌهمَلة، أمثال الكمبلا والمكّية  والفنجفانج والدرمللي و الفرنقبية وغيرها في أناشيده الوطنية و أغانيه، عن وعيٍ بأهميتها و دورها في بوتقة مزاجنا الموسيقي القومي.

أها .. قال الأستاذ اسماعيل قولته تلك عندما حاولتُ أخذ رأيه في صوت مغنٍ ذاع صيتُه أيامها.

وهي قولةٌ تنطوي على وعي بمكونات الصوت وخباياه،  وعيوبه التي قد تتسرب من بين فجوات معارف المستمعين، بل و حتى النُّقاد في كثير الأحيان، وهو يستعير المبرد والصنفرة تعبيراً عما يقوم به أساتذة مادة الصوت من تبصير للدارس بمكامن القوة والضعف في صوته وتخليصه من الشوائب والزوائد.

ولما كانت بالاذاعة السودانية منذ بداية عهدها لجنة للنصوص والألحان للنظر في الأهلية الشعرية والفنية للأغنية قيد النظر ( أياً كان رأينا في ذلك كله)، فقد كانت هناك لجنة أخرى لإجازة الأصوات الجديدة.

لم يكن أساس عمل لجنة إجازة الأصوات تلك خفض عدد من يمارسون مهنة الغناء كما يُظن، بل حماية الجمهور من تفشي الأصوات المعيوبة، ومن خلل الإيقاع والمخارج المعطوبة.

وما ذاك إلا مواصلة في إطارٍ حديثٍ لما درج عليه أساتذة الغناء على مر العصور، فكان الفارابي، فيما ورد من أنباء، إذا ما أخضغ مغنياً للاختبار أمرَه بشد حزامه على بطنه، وترديد ما يُسمِعُه من نغماتٍ بأقوى ما يستطيع، و طلب منه أداء أغان بعينها لاختبار النطق وطول النفس ودقة الإيقاع.

وها نحن، منذ أن أغلق الانقاذيون أبواب الإذاعة فى وجه القدامى والمحدثين من أهل الغناء، وأصمّوا مايكاتها، صرنا أهدافاً مكشوفةً لأصوات تنهمر على أسماعنا بلا فلتر و لا غربال، من قنوات لا ترحم أسماعنا، حتى كاد يودى بحساسيتها طوفان الزعيق و النعيق والنهيق!

ألا فاحذروا يا أولي الأسماع!

هذا لا يعني أننا كنا دائما في منجاةٍ، ولم تأخذ بتلابيبنا قبلَ الانقاذ أصواتٌ يُحار المرء في أهليتها.

وليذكر الناسُ ما شغل به الراحل عمر عثمان نهارات يوم الجمعة عبر برنامجه الشهير ( ساعة سمر) لسنين طوال.

أما في زماننا القريب فقد كانت الإطلالة السنوية للسر قدور و طاقمه الشهير في ( أغاني وأغاني) نفّاجاً لتسريب الأصوات من كل شاكلة و نوع إلى ساحة احتكمت لقوانين السوق فأعمتها، و عمّتها الفوضي و سادها الهرج.

وحتى إذا ما استرشدنا بنداء ماوتسي تونج الذي تأسّت به ثورة الصين الثقافية ( دع مائة زهرة تتفتح) فلا بد من الاحتراس من ازهار العشر التي تثير الحساسية وزهرة البودة قاتلة المحاصيل الزراعية، ومثيلاتها.

و ما أحرانا باتخاذ موقع الدفاع عن أستاذنا العصامي الذي اعتلى منصةً تحكمها شروطُ الإنقاذيين و اذنابهم، و اتخذ منها منارةً للتعريف بتاريخ طويلٍ للأغنية العاصمية كان مجهولاً لكثرةٍ من الناس ،انتزعة من فك الغول الإسلاموي المفترس و أحياه، مما يُحمد له، ناهيك عن طرافةِ حديثهِ و فرادته في الروي و استحلابه لذاكرة ٍأوعت و تعتّقت. وقد كان الأستاذ الشاعر و الملحن و الممثل، ذا ظنٍ حسن ٍ في صبر المستمعين الذين لم يخذلوه، و كان تحمُّلهم لما فُرض عليه و عليهم من أصواتٍ فوق ما قد كان منظوراً. و مع أن السر قدور كان عليماً بمهمة الصنفرة و المبرد، إلا انه تغافل عنها، عامداً، لأنها خارج وصفه الوظيفي و كما ردّد صديقنا د.حسن موسى Hassan Wadamna كثيراً :
نو وَنْ إزْ بيرفكت !

كاتب صحفي وموسيقار سوداني

 

عن وجه افريقيا