ستشهد القاهرة قريبا حدثا سياسيا مهما، حيث سيجتمع رؤساء وزارات الخارجية وكبار المسئولين من روسيا والدول الإفريقية فى العاصمة المصرية المضيافة لتقييم الوضع فى العلاقات الروسية الإفريقية وتحديد سبل تطويرها.
ولأول مرة، سيُعقد المؤتمر الوزارى لمنتدى الشراكة الروسية الإفريقية، كما يُسمى اجتماعنا رسميا، فى القارة الإفريقية. يسرّنا أن شركاءنا قد وافقوا، فى العام الماضي، فى المؤتمر الأول من نوعه الذى عُقد فى مدينة سوتشى الروسية، على استضافة المؤتمر الوزارى فى عام 2025.
أودّ أن أذكر أن منتدى الشراكة تأسس فى عام 2019. وقد عُقدت قمتان روسيتان إفريقيتان بنجاح، الأولى فى سوتشى عام 2019، والثانية فى المدينة الروسية الأخرى وهى سانت بطرسبرج عام 2023. وتُعقد بانتظام اجتماعات متخصصة فى مجالات التعاون المختلفة.
ويُعدّ عمل المنتدى بالغ الأهمية لتعزيز العلاقات الروسية الإفريقية على كل الأصعدة، فهو يُكمّل ويُثرى بشكلٍ فعّال العلاقات الثنائية المتطورة بين روسيا والدول الإفريقية.
هناك أسباب عديدة للتقارب بين روسيا وإفريقيا.. يتذكر أصدقاؤنا الأفارقة، ونحن نقدر ذلك، كيف دعمت بلادنا، الاتحاد السوفيتى آنذاك، تطلعاتهم للتحرر من القيود الاستعمارية. ونعتزّ بأن أسلافنا قدموا هذا الدعم بإخلاص وتفانٍ.
لقد لعب الاتحاد السوفيتى دورًا رائدًا فى اعتماد إعلان الأمم المتحدة بشأن منح الاستقلال للدول والشعوب المستعمرة، منذ 65 عامًا. ومنذ ذلك الحين، دعمت موسكو باستمرار تنمية الدول الإفريقية الناشئة، واقتصادها الوطني، وإنشاء أنظمة التعليم والصحة العامة.
كان انهيار الاتحاد السوفيتى عام 1991، على حد تعبير رئيس روسيا الاتحادية فلاديمير بوتين، أكبر كارثة جيوسياسية فى القرن العشرين. وقد شعر أصدقاؤنا فى القارة الإفريقية بعواقبه المأساوية. ومع مطلع الألفية الجديدة، تباطأ تطوير العلاقات بشكل ملحوظ. ولكن لم يحدث ما يسمى بـ»نهاية التاريخ»، واليوم نشهد عهد الازدهار الجديد للصداقة الروسية الإفريقية.
يسرّنا فى روسيا أن تشهد إفريقيا نوعاً من النهضة الجديدة.
فبينما بلغت ذروتها عند إنهاء الاستعمار فى منتصف القرن الماضي، يناضل الأفارقة اليوم من أجل السيادة فى جميع جوانب حياتهم. وندعم هذا النضال دعمًا كاملًا. وعلى الصعيد الرمزي، تدعو روسيا بنشاط فى الأمم المتحدة وغيرها من المنصات الدولية إلى بذل جهود موسعة للقضاء على الممارسات المعاصرة للاستعمارية الجديدة.
وترسل العديد من الدول الإفريقية ممثلى أحزابها التقدمية للمشاركة فى الحركة الدولية «من أجل حرية الأمم!»، التى تم تأسيسها بمبادرة حزب «روسيا الموحدة».
ومن المهم بالنسبة لنا أن تسعى إفريقيا إلى تحدث بصوت واحد على الساحة الدولية. وتساعد الدبلوماسية الروسية تحوّل القارة الإفريقية إلى مركز مؤثر فى العالم المتعدد الأقطاب. هذه الأولوية منصوص عليها فى مفهوم السياسة الخارجية لروسيا الاتحادية. ونعتقد أن حق الأفارقة فى تقرير مساراتهم ونماذجهم للتنمية بشكل مستقل، واختيار شركائهم الدوليين، حقٌّ ملازم.
كما أشار الرئيس فلاديمير بوتين ذات مرة: «لا توجد لدينا خلافات مع أى دولة إفريقية، ومستوى الثقة والتعاطف المتبادل بيننا عالٍ للغاية. وذلك لأن علاقاتنا مع القارة الإفريقية لم تلق ظلالاً على تاريخها بأى شكل من أشكال القمع، فلم نمارس أبداً استغلال الشعوب الإفريقية». وتُعدّ روسيا وإفريقيا حليفتين طبيعيتين فى سبيل إرساء الديمقراطية فى العلاقات الدولية القائمة على مبادئ ميثاق الأمم المتحدة بكاملها وشموليتها وترابطها.
وندعو باستمرار إلى تصحيح المظالم التاريخية، وإلى مراعاة مصالح إفريقيا بشكل إلزامى فى أعمال إصلاح مجلس الأمن للأمم المتحدة. ونرحب بمشاركة الدول الإفريقية على نطاق أوسع فى مجموعة البريكس، التى تضطلع بالدور المتزايد الأهمية فى تحقيق التطلعات الجماعية لدول الجنوب العالمى والأغلبية العالمية.
وبصفتها عضواً دائماً فى مجلس الأمن للأمم المتحدة، تُولى روسيا اهتماماً خاصاً بالحفاظ على السلام والأمن فى إفريقيا كشرط أساسى لتقدمها الاجتماعى والاقتصادي. انطلاقاً من مفهوم «حلول إفريقية لمشاكل إفريقية»، نسهم فى حل النزاعات الإقليمية وتعزيز قدرة دول القارة على مكافحة الإرهاب وتهديدات وتحديات أخرى.
وتُحدد المجالات الرئيسية للتعاون الروسى الإفريقى فى خطة عمل منتدى الشراكة للفترة 2023-2026. وتشمل هذه المجالات، من بين أمور أخرى، الأمن والطاقة والتجارة والتعليم والعلوم والثقافة. ومن دواعى سرورنا أن الخطة تتوافق تماماً مع الاستراتيجية التى وضعها الاتحاد الإفريقى عام 2015 فى وثيقته «رؤية 2063: إفريقيا التى نريدها».
ويشهد زيادة الحضور الدبلوماسى الروسى فى إفريقيا بأهمية هذا المقر لنا.
وفى هذا العام بدأت عليها سفاراتنا فى النيجر وسيراليون وجنوب السودان ونخطط فتح السفارات فى جامبيا وليبيريا وتوجو وجزر القمر. ونرحب بخطط بوتسوانا وتوجو لافتتاح بعثتيهما الدبلوماسيتين فى موسكو.
ونعلق اهتمامًا كبيرًا للتعامل التجارى والاقتصادى والاستثماري. ويسعدنا بصفة خاصة أن حجم التبادل التجارى بين روسيا وإفريقيا يزداد بشكل مطّرد فبمقارنة مع عام 2019 زاد بمقدار واحد ونصف المرة أى تجاوز فى العام الماضى 27 مليار دولار ونعتقد أن هذا الرقم ليس الحد الأقصى. والآن نعمل من أجل زيادة التبادل التجارى مع دول إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وتعزيز عملية التوريد للمنتجات الإفريقية إلى السوق الروسية وتطبيق الآليات الموثوقة بها لسداد المدفوعات بالعملات المحلية.
وتلعب اللجان الحكومية المشتركة للتعاون التجارى والاقتصادى والعلمى والفنى مع دول إفريقيا دورا مهما فى ترسيخ العلاقات بين دوائر الأعمال وهناك 19 مثل هذه اللجان ونعمل على زيادة عددها. ويتيح فرصة إضافية تثبت منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية بقدرتها التحول إلى السوق المشتركة التى يبلغ مجموعها للناتج المحلى الإجمالى أكثر من 3 تريليونات دولار.
ولم تعتبر روسيا أبدًا إفريقيا قاعدةً للمواد الخام – لدينا ثروات طبيعية كافية. فى أولويتنا تنفيذ المشاريع الاستثمارية فى الدول الإفريقية التى تساعد على استغلال مواردها الذاتية وعلى توسيع القدرات الصناعية وعلى تحسين جودة حياة السكان. يمكننا أن نقدم كثيراً فى مجال الطاقة واستغلال الموارد المعدنية والخدمات اللوجيستية والنقل والبنية التحتية ومجالات التكنولوجية العالية بما فيها التكنولوجيات الرقمية والذكاء الاصطناعى.
إن هذه المبادرات ترسم مسارًا لعقود مقبلة فلا يمكن المبالغة فى تقدير الأهمية الاجتماعية والاقتصادية لهذه المشاريع. فلدينا نموذج نأخذ منه القدوة: بمساندة الاتحاد السوفيتى تم بناء أكثر من 300 منشأة صناعية وتحتية لا تزال تعمل حتى الآن. وفى العام الماضى تم توجيه 200 ألف طن من القمح الروسى إلى اكثر الدول الإفريقية احتياجًا وإلى جانب التوريد الإنسانى للقمح والأسمدة ندعم الإفريقيين فى تطوير قطاعهم الزراعي. نحن على الاستعداد لتبادل التكنولوجيات والخبرة فى الزراعة والانتقاء وإنتاج الأسمدة والرى والصيد السمكي.
ونفتح باب التعامل ليس فقط على المستوى الثنائي، بل على مستوى آليات المتعددة الأطراف الإفريقية، لا سيما مع الاتحاد الإفريقي. فنهتم بجذب شركاء الرؤية فى الهياكل الأوراسية خاصة فى الاتحاد الاقتصادى الأوراسى إلى أعمالنا المشتركة.
نستمر فى توسيع التعاون الروسى الإفريقى فى مجالات مثل الوقاية والتعامل مع حالات الطوارئ والصحة ومكافحة الأوبئة ونشهد أن المختبرات المحمولة الروسية ووسائل كشف الأمراض المعدية تلقى إقبالا كبيرًا فى إفريقيا
طوال عقود يسهم بلدنا فى تدريب الكوادر المحترفة الإفريقية وخاصة فى مجال الزراعة والهندسة والطب والتربية. اليوم فى الجامعات الروسية يتم تدريب أكثر من 32 ألف إفريقى ومنذ عام 2020 تضاعفت حصة المنح الدراسية للقارة الإفريقية ثلاث مرات تقريبًا وزادت على 5300 منحة.
ومن المحتمل أن التسهيل التدريجى لنظام الجولات بين روسيا ودول إفريقيا سيساند توسيع التبادلات التعليمية والثقافية والإنسانية والسياحية بشكل كبير.
وفى الختام، أشدد مرة أخرى على أن روسيا الصديقة القديمة والواثقة لإفريقيا.. ففى نواة الرمز الثقافى الروسى قيم الجماعية والتضامن والمساعدة المتبادلة وهذا متوافق بشكل عام مع فكرة الفلسفة الإفريقية «أوبونتو» وهى «أنا أكون لأننا نكون». وتتطور على هذا الاساس الوطيد صداقتنا وتعاوننا مع احترام ميزاتنا الحضارية.
إن الشراكة الإبداعية من أجل المستقبل ضرورية لرفاهية شعوبنا. وأنا متاكد أن الاجتماع الوزارى فى القاهرة سيمنح دفعة جديدة لهذه الشراكة من ثم يفتح مسارًا إلى القمة الروسية الإفريقية الثالثة فى عام 2026.
الدبلوماسي الروسي المخضرم
سيرجي لافروف
وجه أفريقيا رئيس التحرير: سحر رجب