محمد يحيى
اطلعت فرانس24 على أول نسخة من وثائقي “ملفات بيبي” الذي يكشف عن مشاهد تعرض لأول مرة، لعدة استجوابات قامت بها الشرطة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ومقربين منه، في إطار قضية الفساد التي تستهدفه. كما يسلط هذا الفيلم الضوء على المساومات التي تتم بين النخب الإسرائيلية وكذلك مسؤولية “بيبي” في إغراق الشرق الأوسط في الفوضى.
يمدّ بنيامين نتانياهو يده لكي يتناول كأس الماء. يبدو مسترخيا في بدلته مع ربطة العنق، لكنه يبقى مترهلا بعض الشيء. وخلفه، يمكن رؤية خريطة كبيرة لمنطقة الشرق الأوسط يبدو أن الهدف من وراء وضعها إظهار هيبة منصبه.
يسأله محقق من الشرطة، كان غير مرئي في المقطع: “هل طلبت ذلك؟”
يرتشف بنيامين نتانياهو ما في كوبه. ويجيب رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي بدا غير مبالٍ لدرجة أنه لربما نسي أصلا موضوع الحديث: “ماذا؟”
يذكّره المحقق بصبر وروية: “الحقيبة”
يتناول نتانياهو رشفة أخرى قبل أن يجيب: “ربما. أنا لا أتذكر”.
المحقق: “وماذا لو قلنا لك أنك فعلت ذلك؟”.
نتانياهو: “طلبته، وماذا في ذلك؟
هكذا كان بنيامين نتانياهو يحاول إظهار عدم اكتراثه بالحقيبة التي يُزعم بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي قد طلبها وكانت معتمة لإخفاء ما في جعبتها، وهي عبارة عن علبة سيجار كوهيبا التي تبلغ قيمتها حوالي 1100 دولار. الهدية التي يقال إن مليارديرا إسرائيليا قدمها له.
هي واحدة من بين عدة صناديق من هذا السيجار الفاخر، يطلق عليها محيط نتانياهو”الأوراق الخضراء”، ناهيك عن زجاجات الشمبانيا التي يطلق عليها “الورود”، والتي يقال إن رئيس الوزراء وزوجته سارة حصلا عليها من “أصدقائهما” الإسرائيليين الأثرياء.
تدور أحداث هذا المشهد في فيلم وثائقي يحمل عنوان “ملفات بيبي”، يكشف صورا غير منشورة من قبل لمجريات التحقيقات التي تمخض عنها توجيه تهم الفساد لبنيامين نتانياهو في نوفمبر
تم عرض الوثائقي غير المكتمل بعد للمرة الأولى في 9 سبتمبر خلال مهرجان تورونتو السينمائي، ما أثار ضجة في ربوع الدولة العبرية. حتى إن رئيس الوزراء الإسرائيلي سعى قبيل ساعات قليلة من العرض إلى منع بثه. وهو طلب رفضته محكمة القدس.
على مدار ساعتين مثيرتين، يغوص “ملفات بيبي” بالمشاهد في قلب التحقيقات مع نتانياهو وعائلته وأصدقائه وفريق عمله، إضافة إلى وزير المالية الإسرائيلي السابق. بالتزامن، يجري مجموعة من الخبراء تحليلا لآلية عمل هذه “التنازلات الأخلاقية” التي يتم إبرامها في هرم السلطة ولنتائج جشع النخبة الإسرائيلية على الوضع الجيوسياسي للمنطقة برمتها.
اقرأ أيضانتانياهو يطلب “الصفح” لعدم “إعادته الرهائن أحياء” وبايدن يعتبر أنه لا يبذل جهدا كافيا لإبرام صفقة
فهل أسهم التدفق المستمر لعلب السيجار التي تبلغ أثمانها أسعارا خيالية، وكذا الشمبانيا والأساور باهظة الثمن المرصعة بالألماس، في بلوغ الشرق الأوسط الوضع الراهن، وكيف؟ وهل هناك علاقة ما بين هذه الهدايا الفاخرة المخبأة جيدا في تلك الحقائب من جهة، ومن جهة أخرى بين الملايين من سكان غزة الذين يتخبطون في اليأس والمعاناة الإنسانية الهائلة بعد 11 شهرا من القصف المتواصل، الذي أدى لمقتل أكثر من 41118 فلسطينيا وإصابة 95125 حسب وزارة الصحة التابعة لحماس؟ ثم هل من الممكن أن يكون لها أيضا صلة بمعاناة العائلات الإسرائيلية التي لا تزال ترجو عودة ذويها الذين اختطفوا خلال هجوم حماس في 7 أكتوبر وتم احتجازهم من حينها في قطاع غزة؟
في الواقع، يحاول “ملفات بيبي” جمع قطع هذه الأحجية الكبرى، ومن ثمة يفحصها ويضعها في إطار هذا اللغز السياسي للشرق الأوسط، ما يجسد ما يشبه اللوحة الجدارية الشكسبيرية إلى حد ما، التي تصور فساد رجل واحد، وكيف يمكن أن يكون قد لوّث الطبقة السياسية لأمة في حالة حرب.
تسريب لآلاف الساعات من اللقطات
سُجّلت هذه اللقطات المسربة عن استجوابات الشرطة في الفترة ما بين عامي 2016 و2018، والتي يحظر بثها في إسرائيل بسبب قوانين الخصوصية. لكن تم إرسالها إلى المخرج أليكس جيبني في أوائل 2023. حين حصل هذا المخرج الوثائقي الفائز بجائزة الأوسكار عن فيلم “تاكسي إلى الجحيم” على هذه اللقطات، كانت إسرائيل تعيش على وقع احتجاجات حاشدة ضد خطة إصلاح المحكمة العليا التي دافع عنها نتانياهو وحلفاؤه من اليمين المتطرف.
أوضح أليكس جيبني خلال مقابلة أجريت معه قبل أيام من عرض الفيلم في تورونتو بكندا: “كان ذلك في الحقبة التي حاول فيها نتانياهو إضعاف دور القضاء في إسرائيل. سمح لي هذا فورا بفهم حقيقة أنه كان يسعى إلى التملص من عواقب الملاحقات القضائية ضده. ومن ثمة، فقد كان الموضوع أكبر بكثير من مجرد إجراء قانوني بسيط”.
من جانبه، ورغم أنه ملاحق منذ خمس سنوات بتهم الفساد وخيانة الأمانة والاحتيال، لا يزال بنيامين نتانياهو يحاكم في ثلاث قضايا. ويتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي في إحداها بتقديم خدمات لشاؤول إلوفيتش، رئيس شركة الاتصالات الإسرائيلية الرئيسية، في مقابل الحصول على تغطية إعلامية لصالحه. تسلط قضية أخرى الضوء على هدايا بقيمة 300 ألف دولار عبارة عن علب السيجار والمجوهرات والشمبانيا وغيرها من الحلي المقدمة من أرنون ميلشان منتج إسرائيلي في هوليوود، وكذا من جيمس باكر وهو ملياردير أسترالي.
تقول ألكسيس بلوم المخرجة المشاركة في الوثائقي إن الاستجوابات تمثل “آلاف الساعات ولم نشاهدها كلها لأن هناك ‘شجرة العائلة’، لنسمها هكذا، وهي معقدة للغاية بين مختلف القضايا. ثم إن بعض الأشخاص الذين تم استجوابهم هم مجرد لاعبين صغار”. تضيف الوثائقية الجنوب أفريقية: “لكننا شاهدنا استجوابات كافة الأشخاص الرئيسيين. لسوء الحظ، لم نتمكن من إدراجها كلها”.
سارة نتانياهو: “أدلتكم مجرد ترهات”
من بين الأشخاص الذين وجدوا أنفسهم رغما عنهم في دائرة الضوء، نجد الموظفين في منزل عائلة نتانياهو، الذين وعلى العكس من أرباب عملهن الأثرياء، ظهر عليهم الكثير من الندم أمام المحققين.
بنبرة متنهدة، تقول مدبرة المنزل وطاهية الأسرة التي كانت على علم بقضية الهدايا الفاخرة التي قدّمها منتج هوليوود الإسرائيلي أرنون ميلشان لأرباب عملها: “لقد شعرت بأن الأمر كان سيئا، لكن ماذا كان يسعني أن أفعل؟ لقد طلبوا مني أن أفعل ذلك. أنا فقط أخاف من أن يكتشف والداي ذلك ويشعران بالعار بسببي”.
يجيبها ضابط الشرطة الذي أدار ظهره للكاميرا: “ليس عليك أن تشعري بالعار”.
“بالطبع هو كذلك” ترد المدبرة وهي تمسح دموعها بكم قميصها.
يتناقض هذا الموقف مع سلوك سارة نتانياهو، زوجة رئيس الوزراء، التي كانت تبدو مضطربة وصدامية، حتى إنها وصلت إلى حد القول للمحققين: “أدلتكم مجرد ترهات. إلى اللقاء!”.
بدوره، تعوّد يائير نتانياهو، نجل رئيس الوزراء الإسرائيلي، على الكلام الفظ عبر منصات التواصل، حتى إنه لم يتردد في وصف ضباط الشرطة الإسرائيلية بأنهم أعضاء في جهاز “شتازي” أو أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، وحتى “غيستابو” البوليس السري النازي، حينما انتابته نوبة غضب تم تسريب مقاطع منها في الصحافة الإسرائيلية عام 2019
تُحلل ألكسيس بلوم هذه المواقف من عائلة نتانياهو: “لا أظن أنهم يعتقدون أنهم قد ارتكبوا أمرا سيئا. بل حتى إنهم من يبالغون في تقدير أنفسهم. شرحت لي عدة مصادر تحدثت إليها بشكل رسمي وغير رسمي، بأن نتانياهو يعتقد بأن شخصه هو ممتزج مع إسرائيل، بعبارة أخرى هو في حالة: الدولة هي أنا”.
يُدلل على ذلك إلى حد كبير، قول نتانياهو نفسه إن ادعاءات الفساد الموجهة ضده لا أساس لها من الصحة وأن منافسيه يحاولون اضطهاده هو وعائلته. وهو حتى يعتبر بأن هذا التحقيق “لا يخص بنيامين نتانياهو”، تصريح لرئيس الوزراء الإسرائيلي، أشار فيه إلى نفسه بضمير الغائب، بل حتى ادعى بأن التحقيق موجه ضد “إسرائيل” و”الديمقراطية” على حد قوله.
صدمة هجوم السابع أكتوبر
كذلك، طرح هذا الفيلم الوثائقي الذي أعدته ألكسيس بلوم وأليكس جيبني فرضية تشير إلى أن قضايا الفساد المحيطة ببنيامين نتانياهو ومناوراته للإفلات من قبضة العدالة، قد عرّضت أمن إسرائيل للخطر ودمرت آمال السلام بالشرق الأوسط.
فبحسب الصحافي الاستقصائي الإسرائيلي رافيف دراكر وهو منتج مشارك في وثائقي “ملفات بيبي”، والذي يظهر أيضا في هذا الفيلم، فإن الهدايا الباذخة المقدمة من أصدقاء عائلة نتانياهو المليارديرات دفعت إلى محاولة رئيس الوزراء تغيير قوانين الضرائب لفائدتهم.
ولعل من أكثر الدلائل على هذه العلاقة الحميمة بين نتانياهو وأصدقائه الأثرياء، حادثة وقعت للمنتج الهوليوودي أرنون ميلشان الذي واجه صعوبة في تمديد تأشيرته الأمريكية إثر إشادته علنا بضلوعه في صفقة تسلح. فحينها، تدخل نتانياهو شخصيا واتصل بوزير الخارجية الأمريكي حينها جون كيري لحلحلة الوضع. وفعلا، تمكن أرنون ميلشان من تجديد التأشيرة.
اقرأ أيضاإسرائيل: هل يؤثر الإضراب العام على نتانياهو؟
من ناحية أخرى، وفي ظل تهديده من العدالة وعزلته سياسيا، لجأ نتانياهو إلى منبوذين سابقا من المشهد السياسي الإسرائيلي مثل وزير الداخلية الحالي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، وهما من فصيل “العظمة اليهودية (عوتسما يهوديت)” اليميني المتطرف، ومن الجناح الداعي لمزيد من البطش في غزة ومن المساندين لخطط توسيع المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، رغم أن هذه الإجراءات غير قانونية بموجب القانون الدولي.
يقول رافيف دراكر في هذا الشأن إن “الوضع القانوني نتانياهو يعرض أمننا للخطر”.
ويقول عامي أيالون، الرئيس السابق للشاباك أو شين بيت وهو جهاز المخابرات الداخلية الإسرائيلي، في الفيلم الوثائقي: “لقد كنا ضعفاء، لكن ليس بسبب الاحتجاجات [ضد الإصلاح القضائي]، ولكن بسبب السياسات التي كان [نتانياهو] ينتهجها. بات واضحا أن قدرتنا على المقاومة كانت تنهار. نجم عن ذلك خطرا كبيرا، خطرا على الأمن. لأن أعداءنا فهموا كل هذا، وأحيانا حتى قبلنا”.
حين شنّت حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) هجومها على إسرائيل في 7 أكتوبر، كانت ألكسيس بلوم في خضم تصوير وثائقي “ملفات بيبي”. وعلى غرار الجميع، صُدمت تماما، لأن والدها يهودي ويعرف الدولة العبرية بشكل جيد.
تروي ألكسيس: “لقد استغرق الأمر دقيقة كاملة لوضع تقييم لما يجري. تساءلت أنا وأليكس [جيبني]: كيف سننجز هذا الفيلم؟ كما تعلمون، هناك جوانب عملية محددة وطريقة لتصوير الأشخاص خلال فترة الحداد الوطني”. تتابع بلوم: “إلا أننا أدركنا فورا أن العديد من الإسرائيليين لم يعودوا يريدون نتانياهو. قالوا لنا إنه لا ينبغي أن يكون رئيسا للوزراء في وقت السلم، فكيف في زمن الحرب”.
لكن وبعد ما يناهز الخمس سنوات من اتهامه، لا يزال نتانياهو في السلطة، فيما تستمر سلسلة المظاهرات الحاشدة التي تطالب بوقف إطلاق النار في غزة وتبادل الرهائن المحتجزين لدى حماس في مقابل إطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين لدى إسرائيل.
“ملفات بيبي” يبحث عن موزع
من جهة أخرى، سلّط وثائقي “ملفات بيبي” الضوء على “العلاقة المميزة” بين إسرائيل والولايات المتحدة، التي تعد المورّد الرئيسي للسلاح لها. حيث ينتهي الفيلم بالخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء الإسرائيلي في 24 يوليو أمام الكونغرس الأمريكي، والذي بات بنيامين نتانياهو بعده الزعيم الوحيد الذي تجاوز الرقم القياسي الذي سجّله رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل الذي ألقى ثلاثة خطابات أمام النواب الأمريكيين.
يقول نمرود نوفيك كبير مستشاري الرئيس الإسرائيلي الراحل شمعون بيريز سابقا: “إنها فعلا مجموعة من العبارات الفارغة. لم تكن هناك أية خطة لإنهاء الحرب في غزة، وإعادة الرهائن إلى المنزل وتغيير دينامية المنطقة. من المأساوي، ألا يعرف الأمريكيون كيفية إعادته (نتانياهو) إلى جادة الصواب”.
يضيف نمرود: “لم نر أثر مقاطعة 100 عضو في مجلسي النواب والشيوخ لخطابه. وكذا حقيقة أن تكون الإدارة الأمريكية مخيبة للغاية. لأنهم يهمسون، لكن الهمس لا يُسمع. إذا كنت تريد أن يسمعك الإسرائيليون، قم بالتعبير عن نفسك”.
اقرأ أيضاما أثر إصدار مذكرة توقيف بحق نتانياهو على مستقبله السياسي وعلاقاته الخارجية وحرب غزة؟
ومن غير المحتمل أن يتم عرض “ملفات بيبي” في إسرائيل بموجب قوانين متشددة لحماية الخصوصية.
يسخر أليكس جيبني: “هناك فرصة ضعيفة أن يمنح نتانياهو إذنه” للعرض. مضيفا: “هناك حاليا قيود قانونية مشددة في إسرائيل، لكن في أكثر من مكان بالعالم، لا توجد أية قيود”.
ويبدو أن الهدف هو توزيع الفيلم على المستوى العالمي ولكن بشكل خاص في السوق الأمريكية. لكن يبقى التحدي العثور على هذا الموزع. كما يمكن أن يساهم عرضه في مهرجان تورونتو السينمائي لعام 2024 رغم عدم إنهائه إلى تعجيل وتيرة الأمور.
توضح ألكسيس بلوم: “يوجد شعور فعلي بحاجة ملحة في ظل استمرار هذه الحرب. إنه فيلم على الطريقة القديمة حول حقيقة السلطة. شعرنا بأن هناك ضرورة عاجلة لعرضه”.
يوافقها أليكس جيبني قائلا: “نحن بمواجهة حريق هائل في الشرق الأوسط حيث يموت الناس كل يوم. أظن أنه كان من الضروري أن يكون لدينا منصة وأن نشرع في مناقشة جادة حول نتانياهو ودوافعه”، مضيفا: “يجب أن يخرج هذا، ويجب أن يخرج الآن”.