القاهرة .. محمد خليل
في العام 2017، غادر مصور وكالة فرانس برس سمير الدومي مدينته المحاصرة قرب دمشق، والتي طالها في العام التالي هجوم دام بغاز الكلورين شنّته القوات الحكومية قبل استعادتها السيطرة على المنطقة.
مع إطاحة نظام بشار الأسد، يعود المصور الشاب الى مدينته دوما في مهمة صحافية مع فريق وكالة فرانس برس، ليعيد اكتشاف الأمكنة والوجوه والأسماء مع كثير من الحنين والأمل بلمّ شمل عائلة فرّقتها سنوات الحرب.
ويقول سمير الذي حمل اسم مدينته معه الى العالم “الحياة حلم دائم بالنسبة إلي. كان أكبر أحلامي أن أعود الى سوريا في لحظة مماثلة بعد 13 عاما من الحرب، تماما كما كان أكبر أحلامي عام 2017 أن أغادرها بحثا عن حياة جديدة” بعيدا عن يوميات الحصار والقصف
حلم العودة
ويقول الدومي “أن أكون موجودا هنا اليوم هو حلم.. لم نحلم بأن بشار الأسد الذي كان مزروعا في رؤوسنا للأبد قد يسقط. لم نكن نقوى على الحلم بأننا سنعود. كنا قد فقدنا الأمل” بذلك.
ويضيف “حياتي كلها عبارة عن حلم. الثورة هنا كانت حلما، أن أنفد من الحصار الذي فرض على مدينتنا كان حلما أيضا. خروجي من سوريا كان حلما، وأن أتمكن اليوم من العودة اليها حلم أيضا”.
عن منزله يقول “هذا بيتي في دوما. كل ذكرياتي هنا، طفولتي ومراهقتي. غادرت حين كنت في التاسعة عشر من عمري. أمضيت حياتي في هذا المنزل الذي نزحت عائلتي منه تباعا وتقطن فيه الآن ابنة عمتي”.
مصور فرانس برس سمير الدومي في صالون منزله في مدينة دوما، 22 ديسمبر 2024. بعد سقوط حكم بشار الأسد، عاد مع فريق من وكالة فرانس برس إلى مدينته التي كان قد غادرها في 2017 حينما كانت محاصرة من قبل القوات الحكومية السورية.
ولم يتغير المنزل بحد ذاته. لكن المبنى تغير بعدما هدّم القصف طابقه العلوي.
ويشرح المصوّر “هذه غرفة الجلوس على حالها ومكتبة أبي الأحب الى قلبه في مكانها. كان يجلس صبيحة كل يوم ويقرأ الكتب التي جمعها على مدى سنوات. كانت أعز من أولاده. بحثت عن مقتنيات خبأتها لي أمي منذ طفولتي ولم أجدها. لا أعلم إذا ما كانت موجودة”.
ويقول “ما كان يُشعرني بدفء المكان بات مفقودا، ربما لأنني لم أجد أحدا من أهلي أو الناس المقربين، منهم من هاجر ومنهم من قُتل أو اختفى أو فقد. في الشارع لنا جيران كثر. أعرف وجوههم وأسماءهم. يرحبون بي بعدما يجدون شبها مع شقيقي لكن النفوس هنا متعبة”.
يزور مصور وكالة فرانس برس، سمير الدومي، مدرسته القديمة في حيّه القديم في مدينة دوما قرب دمشق، 22 ديسمبر 2024.
ويشير إلى أن الناس مرّوا “بتجارب كثيرة خلال السنوات الـ13 الماضية، من مراحل الثورة السلمية الى سنوات الحرب والحصار التي أثّرت نفسيا على الناس، ثم التهجير. اعتقد أن من بقوا ومن غادروا تغيروا كثيرا”.
ويضيف “ذكرياتي هنا.. لكنها بمعظمها مجبولة بالحرب التي بدأت بينما كنت في الثالثة عشر من عمري. كل ما عشته كان قاسيا. مصدر الدفء كان عائلتي وأصدقائي. لم يعودوا جميعهم هنا”.
ويلفت الدومي إلى أن المدينة تغيّرت ويقول “أتذكر الأبنية المقصوفة والركام المحيط بها. لكن اليوم تمّ رفعه بالكامل. استعادت المدينة نبضها.. بانتظار أن يعود أهلها”.
التظاهرات الأولى
يقول الدومي “انقطعت عن الدراسة لأشهر بعدما أقفلت المدارس وبغياب بديل عن نظام التعليم الرسمي. وبدأت الخروج مع أشقائي لتصوير التظاهرات التي استضافتها هذه الساحة، أمام الجامع الكبير”.
ويضيف “هنا خرجت أولى التظاهرات في دوما عقب صلاة الجمعة وأولى مراسم تشييع الضحايا”.
ويوضح “في الطابق الأول من مبنى مشرف على الجامع، كنت أقف لألتقط الصور، ثم أبدّل ثيابي التي كنت احملها في كيس معي بسرعة قبل مغادرتي خشية من التعرف الي وتوقيفي. كان تصوير التظاهرات حينها ممنوعا لأنه لا يمكن أن تظهر وجوه معارضين للنظام السوري”.
يقول الدومي “حين كان يهاجمنا الأمن، كنت أنزع شريحة الجوال الإلكترونية أو ذاكرة الكاميرا وأضعها في فمي. في 14 أيار/مايو 2017، خرجت من دوما الى الغوطة الشرقية وسلكت أنفاقا تقود الى حي القابون. هناك كانت حافلات خضراء تنقل المهجرين الى الشمال السوري بموجب اتفاق تسوية. استقليت إحداها ووصلت إدلب. أمضيت شهرا هناك قبل أن أعبر الى تركيا ومنها الى فرنسا في 23 حزيران/يونيو 2018”.
بعد مغادرة سمير بعام، استعادت القوات الحكومية السيطرة على مدينة دوما الواقعة في الغوطة الشرقية، التي كانت أبرز معاقل الفصائل المعارضة قرب دمشق منذ العام 2012.
قبل يوم من إعلان التوصل الى اتفاق تسوية برعاية روسيا بعد سنوات من الحصار والغارات الكثيفة، قتل 43 شخصا جراء هجوم بغاز الكلورين، على مبنى قرب مشفى ميداني في دوما، أدينت دمشق لاحقا بشنه.
وعلى أثره، شنت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ضربات انتقامية طالت مواقع عسكرية يعتقد أنها منشآت للأسلحة الكيميائية.
وف آب/أغسطس 2013، تعرضت دوما مع بلدات عدة في ريف دمشق لقصف بسلاح كيميائي نفذته القوات الحكومية، وأسفر عن مقتل نحو 1400 شخص.سمير أم معتصم؟
ويقول “الى فرنسا، حملت اسمي معي: سمير الدومي من دوما، هذا أكثر ما أحببته من اسمي. حملت دوما معي لأتذكر أن لدي هوية ومكانا أنتمي اليهما”.
ويضيف “في فرنسا، أعيش استقرارا وأنا سعيد. لدي عائلة وأصدقاء وعمل لكنني لا أشعر بانتماء لمكان محدد فيها. كنية الدومي تشعرني بانتمائي وأن لدي أصل وفصل. عندما عدت الى سوريا شعرت أيضا أن لدي بلد”.
في مقارنة بين الوضع داخل البلاد وخارجها يقول “في الخارج، نتأقلم مع كلمة لاجىء ونبذل قصارى جهدنا لأن نستكمل حياتنا ونندمج مع مجتمعات جديدة ونتكيّف معها، لكن بلدك يبقى المكان الذي يتقبلك كيفما كنت من دون جهد إضافي”.
ويضيف “حين تخليت عن اسم معتصم واستخدمت اسمي الحالي، كان هدفي حماية عائلتي المقيمة في دمشق، خالاتي وعائلاتهم”.
ويقول المصور “اليوم، عاد معتصم من جديد بعدما كان مهمشا لسنوات. لكنني اعتدت على اسم سمير، حتى زوجتي تناديني بهذا الاسم. هو جزء من هويتي ومن تجربة عشتها في حياتي ومن مرحلة تحول من الطفولة الى بداية الثورة وتعلّم مهنة جديدة والتعرف على شغف جديد قادني الى حياة جديدة. اختبر سمير معي مرحلة التحول في حياتي. بات جزءا منها ولا أستطيع اليوم التخلي عنه”.
عودة؟
عن العودة يقول الدومي “حين تركت سوريا، لم أتوقّع أنني سأعود إليها يوما. حين قرأت الخبر لم أصدق. أن يسقط بشار الأسد كان أمرا مستحيلا. لكن كثرا ما زالوا قيد الصدمة اليوم وهم وخائفون. يصعب التصديق أن النظام الذي زرع الخوف في نفوس مواطنيه يمكن أن يسقط”.
ويضيف “حين عدت الى دمشق، لم أتمكن من حبس دموعي وأنا اتجول في حارات الميدان في دمشق. سارعت الى منزل شقيقتي، احتضنتها وبكينا. لم يكن أي منا هنا منذ سنوات”.
ويقول “في دوما، غصّة ألا أجد عائلتي فيها. لكنني أعلم انهم سيعودون حتى لو استغرق الأمر وقتا. اليوم، بات لدي حلم جديد: أن نعود لنجتمع مجددا في سوريا”.