“أبطال وقبور” نص مفعم بمشاعر الخوف من أول سطر. نقرأ في صدر الرواية مقطعًا من خبر بوليسي عن حادث مروّع نشرته في 28 يونيو/حزيران 1955 صحيفة (لاراسون) التي تصدر في بوينس أيرس. هز الحادث المدينة بسبب شهرة العائلة الأرجنتينية العريقة التي تنتمي إليها البطلة أليخاندرا. الخبر يقول إن أليخاندرا أغلقت باب البرج القديم بالمفتاح من الداخل وقتلت والدها بأربع رصاصات ثم أشعلت النار في البرج واحترقت حية!
في نفس الخبر ثمة إشارة إلى تقرير غامض عن العميان، كتبه مجنون يدعى فيرناندو فيدال أولموس، وهو نفسهوالد أليخاندرا المقتول برصاصها، في نفس تلك الليلة التي قُتل فيها! يرجح الخبر أن التقرير يُضعف افتراض جنون أليخاندرا ليُحل محله افتراضًا أشد غموضًا، ويفسر سبب عدم انتحارها بإطلاق ما تبقى من رصاصات على نفسها واختيارها أن تحرق نفسها حية!
هكذا ندخل إلى ذلك العالم الكافكاوي السوداوي المرعب يقودنا عنصران بالغا الرهبة من الغموض والرعب: جريمة قتل فتاة لأبيها ثم انتحارها بإضرام النار في البيت وفي جسدها، وتقرير غامض عن “طائفة العميان”.
عن التقرير الخاص بالعميان يزعم كاتبه أن الكاتب المسرحي ستريندبرج قد جُنَّ بسبب محاولته التسلل إلى العالم السري للعميان (ص417)، والحق أن ثمة ما يدل على جنون سترندبيرج!
ويواصل كاتب التقرير: “أمّا رامبو فقد بدءوا مطاردته قبل سفره إلى إفريقيا، ثم انتهى به الأمر إلى الهذيان”(ص481)، فالانتحار (ص497). ودي موباسان انتهى إلى الجنون (ص481)، وكذا انتحر أرتو ولوتريامون (ص497).
ما نقلته مصورًا هو: الفقرة الأخيرة ص10، والأولى ص11 من مقدمة د. خالد البرادعي لرواية “ملاك الجحيم” لساباتو.
+ مهم الرجوع لكتاب “أدب أمريكا اللاتينية- قضايا ومشكلات”، 2مج، سلسلة عالم المعرفة، الكويت. وكتاب “الأدب في البرازيل”، د. شاكر مصطفى.
وعن القتلى والضحايا، وما أكثرهم، لا نكاد نعبر أولى صفحات الرواية حتى نلتقي بمارتين بطل الرواية منزويًا ذات مساء كئيب في ساحة حديقة ليساما «يلتقط قطعة جريدة مهملة شبيهة بخريطة بلد ما: بلد ليس له وجود إنما وجوده ممكن. وقرأ بكآبة كلمات عن السويس، وعن تجار ذهبوا إلى سجن ديافوتو، وعن شيء قاله جيورجي لدى وصوله. على الجانب الآخر الملطخ بالطين، كانت تبدو صورة بيرون يزور مسرح ديسيبولو. وتحت ذلك: محارب قديم قتل زوجته وأربعة أشخاص آخرين بفأس» (ص18). كما أننا نلتقي بأليخاندرا في بداية الرواية من خلال خبر قتلها لوالدها ثم انتحارها، ويتواصل السرد في غياب البطلة الميتة، وحضورها الطاغي في مخيلة البطل مارتين عبر فلاش باك طويل يسرد من خلاله مارتين كل تفاصيل وقائعه على صديقه برونو، الذي ليس مجرد مروي عليه بل شريك لمارتين في عشق أليخاندرا، أو هو ظل لمارتين.
هكذا يبدو فعل القتل هاجسًا مسيطرًا على النص من أوله إلى آخره. وفي الخلفية تموج بوينس أيرس والأرجنتين وأمريكا اللاتينية في نهر من الحروب الأهلية والانقلابات العسكرية والمجازر وطوفان النار والدم والجثث المتعفنة، «عبْر ديار عمرها ودمرها الحب والإخفاق والموت»، وعبر «زمن طويل؛ لأنه لا يقاس بالأشهر والسنوات، وإنما – باعتباره يخص هذا النوع من المخلوقات- يقاس بنكبات روحية وتعاسة لا توصف. أيام تطول وتتشوه كأشباح قاتمة على جدران الزمن» (ص19)، مثلما كانت أليخاندرا تدندن من شعر بورخيس:
ها هي بوينس أيرس
الزمن الذي يأتي للناس بالحب أو الذهب
لا يكاد يترك لي سوى هذه الزهرة الذابلة،
هذه الشبكة التي لا فائدة منها من شوارعَ
تكرِّر الأسماء الماضية ممَّن من دمهم تحدرت:
لابريدا، كابريرا، سولير، سواريس…
أسماء ما زالت تدوي مرددةً الأهداف السرية،
والجمهوريات والخيول والأصباح،
نشوة الانتصارات، وممات العساكر
نحن بإزاء مرثاة لأمة طحنتها الحروب والانقلابات، وغرقت طويلًا في الدماء والبؤس والفقر والديكتاتورية والاستعمار والعبودية والعزلة والانتصارات والهزائم، على نحو يذكّرنا برائعة ماركيز “مئة عام من العزلة” التي تأثرت بلا شك برواية “أبطال وقبور”.
لكن الغموض والجو الكابوسي المهيمن على “أبطال وقبور” ليس كذلك الغموض والرعب وأجواء الكآبة التي نصادفها في الروايات البوليسية أو روايات الجريمة والرعب، بل غموض ورعب كابوسيان ناشئان من طبيعة الفضاء السردي متعدد المستويات، فنحن أمام نص ملحمي يجسد حيوات وأقدارًا مروعة لأبطاله وعالمهم المأساوي. وتزداد كثافة جرعة الغموض والكابوسية المرعبة بما بثه الكاتب في نصه من تأملات في الفيزياء والفلسفة والسياسة والأدب والشعر والرسم والموسيقى والصوفية والبوذية…، وغوص في أعماق الشخصيات والأحداث، وولع خاص بالغرابة وعالم الجنون، في نسيج تراجيكوميدي.وعلى الرغم من مأساوية العالم الذي يكتنف الرواية، لا تخلو “أبطال وقبور” من لمحات خاطفة من الضحك الذي كالبُكا، كتلك الفقرة عن معجنات سانتا كاتالينا (؟؟؟ هنا الفقرة الأخيرة ص371). وفي فقرة من تقريره يتمنى فيرناندو لو أسرعوا باختراع جهاز لكشف النذالة وقياسها، ولنُسمّه “وغدو متر”!
مما ساعد ساباتو على تشكيل سرده البديع تعدد مصادر ثقافته، فمن الجدير بالذكر أن ساباتو حصل على الدكتوراه في الفيزياء وعمل في هذا الحقل في فرنسا والولايات المتحدة، ثم درس الفلسفة، واستقر أخيرًا في عالم الأدب منذ 1945، ثم بدأ يرسم بعد أن كلَّ بصره في نهاية حياته(؟؟؟ تعميق).
«؟؟؟ (هنا اقتباس من مقدمة المترجم: الفقرة الأولى ص8)».
حين يرسم ساباتو الروائي شخصياته يلجأ إلى ساباتو الرسام، فلا يكتفي في وصف مارتين بكلمات مثل «فتى طويل القامة محدودب الظهر»، أو أنه «يعتبر نفسه دائمًا قبيحًا ومثيرًا للضحك»، «قبيحًا وغير متناسق وأخرق»، ولكن أيضًا كما تصفه أليخاندرا «مثير للاهتمام وعميق، ثم إن شكلك غريب»، «طويل ونحيل كإحدى شخصيات إلغريكو». أما البطلة أليخاندرا فهي صورة غائمة مضببة في ذاكرة مارتين «لتلك الفتاة المجهولة، البقعة الزرقاء على تنورتها، سواد شعرها الطويل المنسدل، شحوب وجهها، محيّاها الذي لا يحيد عنه. كانت كلها تكاد تكون بقعًا، مخطط رسام بلا أي تفاصيل تدل على عمر محدد أو شكل معين» (ص20- 21)، ثم «وبينما كانت تتوارى تأملها: كانت طويلة القامة، تحمل كتابًا في يسراها وتسير بعزم وعصبية». وما أروع تحليل برونو للوحات فان جوخ عن الطبيعة الصامتة (ص595- 596).
ولا يقتصر ساباتو في رسم شخصياته على الكلمات وتقنيات الفن التشكيلي من ضوء وظل وخطوط وبقع وألوان، بل يغوص فيها بنزوة شعرية تمازجها روح صوفية متوهجة.. ثمة شيء لامادي في الكائن الإنساني (؟؟؟ هنا ننقل ص25 بالكامل»).
كل ذلك مع نزوع إلى الإيمان بعجائب عالم الروح: كالحدس والتخاطر، واليقين القائم على محض الشعور الباطني، وانفتاح عالم آخر وحيوات ماضية لدى رؤية شخص أو تذكُّر حدث ما مما تثيره من «شعور يشبه الحقيقة مثلما يشبه حلمٌ وقائع عالم اليقظة»، والعالم الغامض لتناسخ الأرواح.
صاغ ساباتو ملحمته في أربعة فصول (أو بالأحرى لوحات)، هي:
- الأميرة والتنين (من ص13- 170).
أمَّا الأميرة فهي أليخاندرا، بطلة الرواية، وأما التنين فهو الخوف الذي ينهش روحها. أليخاندرا روح قلقة مليئة بالكوابيس والشياطين والقوى العاتية التي تعربد في داخلها، لم تنلْ من الحياة إلا اللعنات المتواصلة، ربما تخللتها لحظات نادرة من الهدوء والسلام مع مارتين شبيهة بتلك التي يشعر بها المحاربون حين «يصلون من جبهات القتال جرحى تعساء نازفين عزلًا، ولكنهم يعودون إلى الحياة شيئًا فشيئًا فيقضون أيام هدوء حلوة بجانب أولئك الذين يهتمون بهم ويداوونهم»، ثم سرعان ما تعود إلى عالمها السوداوي الموحش وعواصفه المدمرة التي انفجرت أخيرًا بجنون وعنف مدمر انتهى بها إلى قتل والدها ثم الانتحار محترقة في ذلك البيت العتيق الذي كان شاهدًا على قرون من تاريخ الأرجنتين وأمريكا اللاتينية الصاخب والحافل بالعنف والحروب والانقلابات والفقر والخيبات والمآسي، «أرض غريبة كالأحلام يحيط بها الإبهام والجنون، ومخيفة ومثيرة كالأحلام أيضًا».
إن أليخاندرا تجسيد حي (وميت!) لروح الأرجنتين، فلحمها المحترق كان قربانًا، طقسًا من طقوس “التطهر بالنار”، كان«أكثر من مجرد لحم، شيئًا ما أشد تعقيدًا وإبهامًا وغموضًا من مجرد لحم تشكله أنسجة وخلايا وأعصاب؛ فقد كان (لنقلْ بالنسبة إلى مارتين) أو أصبح الآن ذكرى؛ ولذلك فإنه شيء يستعصي على الفساد، شيء شفاف مرهف، إنما فيه بعض صفات الخلود والأبدية…، وهو آفاق بوينس أيرس وغيومها، وتماثيل حديقة لاساما البسيطة عند الغروب، وغريب يعزف على سيتارا، وليلة في مطعم “زوربوست”، وليلة ماطرة يختبآن فيها تحت سقيفة، وشوارع الحي الجنوبي، وسطوح بوينس أيرس تشاهَد من الطبقة العشرين في مبنى “كوميغا”. وكل ذلك كان يحسه من خلال لحمها الطري المرتعش الذي – وإن كان مصيره أن يتفسخ في التربة الرطبة بين الديدان والحمأ- إنما كان يستطيع أن يلمح فيه الخلود؛ لأننا لا نستطيع أن نلمح الخلود إلا عبر اللحم الهش الفاني».
(؟؟؟ هنا يجب شرح كلمات: سيتارا، مطعم “زوربوست”، شوارع الحي الجنوبي، مبنى “كوميغا”).
ومن خلال مارتين وأليخاندرا، تبدأ ملحمة ساباتو، تلك الملحمة اللاتينية المعاصرة، التي تصوِّر حياة الشعب الأرجنتيني في منتصف القرن العشرين رجوعًا إلى الماضي حتى لحظة الاستقلال في بداية القرن التاسع عشر. نلتقي خلال تلك المسيرة الملحمية بأبطال مهمشين وحيوات مستلبة وأقدار عنيفة مروِّعة. حيث تحفل الرواية بالعنف والقتل والدماء (؟؟؟ من ص312- 324: انقلاب عسكري سنة 1954 ضد بيرون، تلته أعمال شغب وتخريب أعمى من أنصاره. انظر الهامش ص323).
هذا إلى جانب العدمية المطلقة لدى فيرناندو، كما تتجلى في كل أفعاله وأفكاره وهواجسه. مثال على تلك العدمية حواره مع السيدتين نورما بوجيلسي وغونسالس إيتورات (انظر: ص372- ص382، خاصة ص381، 382). وهو حوار كاشف عن خواء روح فيرناندو رغم قوة حججه وبراهينه العقلية.. إنه إنسان فقد روحه تمامًا.
يعود تاريخ بيت آل أولموس، الذي تسكنه أليخاندرا بطلة الرواية، إلى مطلع القرن التاسع عشر، حيث عاشت الأرستقراطية الأرجنتينية منعَّمة في كنف السلطة العسكرية، وتقلّبت أقدارها مع تقلبات السلطة والانقلابات العسكرية المتتالية ونمو العصابات المسلحة التابعة لهذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع على السلطة الذي قاد البلاد إلى بحار من الدماء. ويوغل تاريخ البيت في القِدم حتى العصر الفينيسي، بل حتى منتصف القرن السادس عشر، منتصبًا في بوينس أيرس، وكأنه شاهد مكاني يقبض على الزمان ويأسره في لوحات ومنحوتات وأثاث وأسطوانات موسيقية من تلك العصور القديمة تجسِّد جميعها روح البطلة الممزقة بين الماضي والحاضر، بين الأساطير القديمة والأساطير المعاصرة التي شكَّلت روح الأرجنتين، وصبغت شخوص الرواية بتلك الديمومة المؤلمة.
ترى ما الذي قاد أليخاندرا إلى قتل أبيها ثم الانتحار؟
لعله البحث المضني عن مطلق ما وسط طوفان الخوف والقلق والكراهية والحب والخطيئة والطهر.. تلك الثنائيات التي جثمت على صدرها المرهق بثماني عشرة سنة هي عمرها، وآلاف السنين من عمر بلادها وعمر الإنسان. تصف لنا الفقرة التالية مشاعر أليخاندرا حبيسة الزمان والمكان:
«؟؟؟ ص81: ذاكرتها… موت».
وهناك تلك الحادثة المزلزلة التي فجرت في روحها كل هذا الخوف وما قادت إليه من أحداث مروعة، وهي رؤية أبيها مع امرأة أخرى في سرير أمها.
أليخاندرا عشق مارتين الخالد.. مارتين الفتى العاشق، بل الطفل الغر الملائكي الذي قُدر له أن يعيش إلى جانب مأساته الأسرية مأساة أخرى أشد روعًا. مأساته الخاصة تشبه مأساة أليخاندرا ولكن بصورة معكوسة: فأم مارتين (التي يسميها البالوعة) كانت تذل أباه الرسام الفاشل بخيانتها له جهارًا، وكان مارتين مطلعًا يعرف وتمتلئ روحه بالكراهية والسواد. وسنلتقي هذا الفتى الجريح في اللوحة الثانية ثم في اللوحة الرابعة وهي الأخيرة وهو يحاول لملمة ما تبقى من روح أليخاندرت ولملمة بقاياه الممزقة.
- الوجوه الخفية (من ص171- 326).
في هذه اللوحة يحاول مارتين لملمة أشلاء أليخاندرا المحترقة والحفاظ عليها حية بعد أن مزق الموت ذلك الكائن المعذَّب والمعذِّب! من خلال حوارات مطولة بين مارتين وبرونو (صديقهما المشترك).
ثمة استطرادات طويلة في السرد في هذا القسم لا علاقة لها بالبناء العام للرواية، مثلًا ذلك الحوار الطويل أو بالأحرى الخطبة المملة التي يلقيها موليناري رجل الأعمال الرأسمالي الجشع على مارتين (من ص 180- 193) عن ضرورة الرأسمالية وسذاجة الاشتراكية والفوضوية، وأهمية الدعارة المقننة… الخ. وكذا كثير من الحوارات المطولة بين مارتين وبرونو، ومحورها جميعًا أليخاندرا. وأيضًا حوار مارتين وبرونو حول بورخيس وأدباء أرجنتينيين آخرين، ثم حوارهما مع الأب رينالديني حول بورخيس أيضًا. كذلك كان حديث بوردينابي المطول إلى مارتين عبثًا خالصًا، ربما أقحم في النص لإبراز توجهات ساباتو السياسية… كل تلك الاستطرادات تضعف الرواية، ولولا ذلك الجزء الرائع من “الوجوه الخفية” لبدا لنا ذلك الفصل عبثًا أو لغوًا لا جدوى منه، أعني الجزء الخاص بعالم واندا، صاحبة البوتيك الذي عملت فيه أليخاندرا، وما يموج به ذلك البوتيك من وجوه خفية وأقنعة تحجب الوجوه الحقيقية، إن وُجدت، بتعبير برونو: «شخص يعني قناع، ولكل امرئ أقنعة كثيرة: قناع الأب، قناع المعلم، قناع العاشق، ولكن أي قناع منها هو الحقيقي؟ وهل هناك في الواقع واحدٌ منها حقيقي؟»،«إننا دائمًا نلبس قناعًا، لا يكون هو ذاته باستمرار، بل يتغير وفق الأدوار المقررة لنا في هذه الحياة: قناع المعلم، قناع العشيق، قناع المثقف، قناع الزوج المخدوع، قناع البطل، قناع الأخ الرؤوف. ولكن أي قناع نضع، أو أي قناع يبقى لنا عندما نكون في عزلة؟ عندما نعتقد أن أحدًا لا يرانا ولا يراقبنا ولا يسمعنا ولا يسألنا ولا يتوسل إلينا ولا يتهددنا ولا يهاجمنا؟ لعل الطبيعة القدسية لتلك اللحظة تعود إلى أن المرء يكون حينئذ وجهًا لوجه أمام الذات الإلهية، أو – في أقل تقدير- أمام ضميره الذي لا يهدأ».
وبالمثل يتدفق السرد بروح من الشجن والحنين إلى الوطن الأم، ذلك الحنين الرقيق الحزين في قلب وروح العجوز الإيطالي داركانخيلو، وتأملات برونو في الروح الأرجنتينية (؟؟؟ انظر ص247- 248، ومهم جدًا ص565- 567).
وفي هذا القسم نلتقي بشخصية كيكي المهرج الساخر(؟؟؟)، ثم شخصية المجنون باراغان (؟؟؟ انظر ص256- 260، 287- 290).
وفانيا العجوز السكير المستسلم للخمر والمخدرات (؟؟؟ انظر ص 278- 279).
أما الفقرة رقم 23 من هذا القسم (؟؟؟ ص309- 310) فهي قصيدة بديعة في البيت والوطن والدفء وحضن الأم، وفي الغربة والشتات والتمزق.
كذلك كان من أبرز ما في هذا القسم وأجمله الفقرات (ص311- 324) التي تركزت حول انقلاب عسكري فاشل ضد الرئيس بيرون سنة 1955، تلاه غضب عارم من أنصار الرئيس انطلق يحرق ويدمر في فوضى مطلقة.
- تقرير عن العميان (؟؟؟من ص327 – 510):
في هذه اللوحة العبثية نلتقي بفيرناندو فيدالأولموس، والد أليخاندرا وكاتب تقرير العميان، ذلك المجنون السادي الارتيابي والمؤمن إيمانًا أعمى بقدرية محكمة تهيمن على العالم جعله على يقين أنه سيُحكم عليه بالموت حرقًا،والمثقف ثقافة رفيعة، القارئالمولع بهوميروس ودانتي ودي ساد ودي مازوخ وهيجلونيتشه وكيركجارد وديستويفسكي وفرويد وبروست ورامبو وسترندبيرج وباكونين وكروبوتكين وغير هؤلاء من المبدعين من أدباء وفلاسفة وثوار، والمطلع بعمق على تاريخ وأساطير وثقافات شعوب مختلفة من القارة الأوروبية إلى مصر القديمة إلى الصين والهند… إلى باريس المعاصرة، وبوينس أيرس وأمريكا اللاتينية بالطبع. ولكنه مصاب بذهان واضطرابات عقلية خطيرة، ورجعي إلى أقصى حدود الرجعية، فهو عدو للعلم والتقدم، وعدو للمرأةوعدو قبل كل شيء للعميانحيث انصبت لعناته وهواجسه الذهانية المفزعة، وفي تناقض صارخ عدو أيضًا للمجتمع المحافظ وأخلاقه النموذجية المنافقة!
في تلك الشخصية المفعمة بالخبل ملامح من جنون ماكبث وتفلسف شحاذ نجيب محفوظ (؟؟؟ المزيد منالشخصيات المشابهة في الأدب العالمي: الصخب والعنف لفوكنر تُروى بلسان مجنون).
يعتقد فيرناندو أن العميان يشكلون “طائفة”، أو بسخرية سوداء “طائفة مقدسة” لها طقوسها الغامضة وكهنتها (الأربعة!) «الذين يقطنون في مكان ما من جبال البيرينيه في مغارة هائلة العمق أودت بحياة فريق من الباحثين المختصين بالتنقيب عن المغاور حاول اكتشافها عام 1950»!لقد تأصلت في نفسه منذ الطفولة قناعة مطلقة «بأن العميان يتحكمون في العالم: بوساطة الكوابيس والأوهام والأوبئة والساحرات والعرافين والطيور والأفاعي، وكل وحوش الظلمات والكهوف بصورة عامة».وتتسم تلك الطائفة المقدسة، قوى الظلمات الكبرى،بكل سمات الجمعيات السرية والمنظمات الغامضة، بل بكونها سلالة لها سمات عِرقية تميزها. وتتصاعد ريبته وشطحاته المغرقة في الذهانية حتى تصل إلى تصور هؤلاء البؤساء في صورة كائنات غير آدمية تنتمي إلى الرخويات أو الحرشفيات أو الضفادع أو الزواحف أو ما شابه!(؟؟؟ ص301- 303 مهم، 308، ).
وهاجس العميان مسيطر على نصوص ساباتو الروائية الأخرى، نجده في أولى رواياته “النفق”، وفي آخرها “ملاك الجحيم”.
ثمة مونولوج طويل يكشف لنا أبعاد هذه شخصية فريناندو المريضة بالفصام (ص345 وما بعدها.. هل أكتفي بهذه الإشارات أم أنقل جزءًا من المونولوج هنا؟؟؟) يُعد قطعة من الأدب الرفيع الحافل بالغوص في أعماق الذات والتأملات العميقة حول الروح والجسد، الزمان والمكان، الجسد والروح، الأنا والعالم، الثبات والتحول، هوية الأنا بين الديمومة وإمكانية التفتت… كل تلك التشوهات والتمزقات التي يخلقها الجنون، ومع ذلك يبقى للمجنون قدرة عقلية ما على تأمل تلك العواصف في عقله وجسده وروحه ورصدها بدقة مذهلة ومخيفة له ولقارئ هذا الدفق العجيب من الوساوس والضلالات والآلام والعذابات الكابوسية الوحشية! (فقرة مهمة عن تشوه الذات وتفكك الأنا واضمحلال الإرادة وانفصام الوعي عن الجسد أو فقدان التوافق أو التناسق بينهما: ؟؟؟ آخر ص348- 350،… تذكرنا فقرة الغثيان برواية سارتر “الغثيان”، حيث (؟؟؟ هنا مراجعة لغثيان سارتر. وقد ورد ذكر سارتر والغثيان في رواية “ملاك الجحيم، انظر: ص68). لا يبدو هذا الهذيان قابلًا للفهم إلا لطبيب نفسي أو ربما لمن خبر شيئًا من هذه التجارب العاصفة.
؟؟؟ نماذج من ضلالات الفصاميين: وصف فيرناندو لسويسرا وشعبها بالتفاهة، وأن هذا الشعب – في أحسن أحواله- ليس سوى صانع ساعات؛ فقط لأنهم أضاعوا فرصة تاريخية في أن تكون لهم مأساة قومية كبرى عندما أصاب سهم جيرمو تل التفاحة ولم يُصب الفتى! رغم أن فيدال نفسه وصف هذا البلد قبلها بسطور قائلًا: «عندما مررت بذلك البلد أول مرة خِلت أن ربات البيوت يكنسنه كل يوم (ويلقين القمامة على إيطاليا طبعًا)!» (؟؟؟ ص355). وكذلك لاحتشاد قوى الإنسان الروحية وطاقات عقله الباطن، وكيف يؤدي إلى خلق حقل تليباثي حولنا يمكننا من إخضاع مخلوقات أخرى لإرادتنا، حتى إن فيدال تمكّن – عبر هذا الحقل التليباثي- أن يصيب إيجليسياس بالعمى كي يستخدمه جسرًا للوصول إلى عالم العميان الذين يعتقد جازمًا بامتلاكهم طاقات باطنية جبارة تمكنهم من تسخير العالم لأهدافهم الخفية (؟؟؟ ص356، 357)!
أو هواجسه عن “طائفة العميان” وما تُكنّه من حقد دفين تجاه المبصرين، وما تمتاز به من قسوة مفرطة وأنانية رهيبة، وشكوكه الأبدية التي تجعله يرى في كل إشارة تافهة مؤامرة، حتى كرّس حياته كلها لدراسة هذا العالم الغامض. نرى ذلك الهوس في مراقبته لعدد كبير من العميان في شوارع بوينس أيرس، بل إنه تعلم طريقة بريل. مثلًا يصف فيرناندو ما يطرأ من تحولات مسخية على المبصر حين يفقد بصره ويخطو إلى عالمهم، فنرى أن «التبدل بدأ يطرأ على “جنسه” أو “طبيعته الحيوانية كما لو أن مخلوقًا بشريًا نتيجة تجربة بالجينات – على نحو بطء لكنه حتمي- إلى وطواط أو ضب»! (؟؟؟ ص361- 362). إن عالم العميان، أو “متاهات الجحيم” بالنسبة لفريناندو، يمتلك نظامًا واسعًا متشابكًا للمعلومات والجاسوسية كنسيج عنكبوت خفي يغطي العالم بأسره (؟؟؟ ص366)!
وحين يلتقي فيرناندو “كاهنة العميان” يسقط في غيبوبة ذهنية عاتية، فيرى أنه يجدف بزورق في مياه سوداء موحلة، تحلّق من فوقه طيور خرافية، زواحف مجنحة أو وطاويط عملاقة، وثمة عجوز في هيئة سيكلوب جبار يملأ الأفق طولًا وعرضًا، بينما تطفو على سطح البحيرة أوراق كبيرة وأزهار كئيبة متعفنة، ويواصل الإبحار حتى إذا ظن أنه قد لامس الشاطئ وجد نفسه يخوض في مستنقع يغص بالأفاعي، في مسيرة دامت في ظنه دهرًا بينما الطيور تخفق من حوله وتلامس وجهه بأجنحتها الضخمة اللزجة الباردة، مرتعبًا من احتمال أن تنقض عليه بمناقيرها المسننة وتقتلع عينيه حين يظن أنه قد بلغ الشاطئ، وهو ما حدث: اقتلع طائر خرافي هائل بلا عينين عيني فيرناندو! كل هذا حدث في غيبوبة رهيبة أفاق منها ليجد نفسه أمام العمياء التي تركته وأغلقت الباب فيقي سجينًا في ذلك القبو المظلم الخانق زمنًا لا يُعرف مداه، إلى أن نعرف أخيرًا أن هذا كله كان – ربما- كابوسًا انتاب فيرناندو، لكنه كان أكثر من كابوس عصف بحياته وحياة ابنته/عشيقته أليخاندرا، وكان لا بد أن ينتهي أخيرًا في طقس هائل من طقوس التطهر بالدم والنار.. ياللجنون!
- إله مجهول (من ص511- 640):
يبدأ هذا القسم بحلم أو كابوس يسمع مارتين رنين أجراس كئيبًا وبعيدًا، وأنينًا غامضًا أخذ يتحول رويدًا رويدًا إلى صوت حزين يردد اسمه وسط صخب الأجراس، تحت سماء منيرة بحريق قانٍ كالدم، ثم يرى أليخاندرا قادمة نحوها شاحبةً تمد ذراعيها للأمام وتحرك شفتيها كأنها تناديه بحزن وصمت. صرخ مارتين باسمها وانطلق إلى بيت آل أولموس، حيث شاهد الحريق والشرطة تخرج جثتي أليخاندرا وفيرناندو وعلى إثر ذلك هام في شوارع بوينس أيرس، معاودًا الطواف كأنه يسير نائمًا، كأنما يتخيل أن تظهر أليخاندرا في أحد تلك الشوارع مرة ثانية، ثم رحل إلى الجنوب حيث أقام في باتاجونيا تضطرم في قلبه أحزان فادحة، «ويتألم بصمت كجريح على شفير الموت يحاول بحذر بالغ انتزاع السهم المسموم من لحمه الممزق».
ثم ها هو مارتين يلوذ بصديقه برونو ليحكي قصته مع أليخاندرا «مدفوعًا بتلك الحماسة التي تحدو البشر إلى التشبث بأي أثر من الآثار الروحية أو الجسدية للمخلوق الذي أحبوه كثيرًا، والتي تبقى مبعثرةً هنا أو هناك: تتجلى في خلود الصور المضعضع الملتبس، وفي الكلمات التي قيلت ذات مرة لآخرين، وفي تعبير ما يتذكره أحدهم أو يقول إنه يتذكره، وحتى في تلك الأشياء الصغيرة التي تكتسب قيمة رمزية لا تُقدَّر (علبة ثقاب، بطاقة دخول للسينما…) وما إلى ذلك من أشياء وعبارات تجترح معجزة جعْل تلك الروح حاضرة وإن كان حضورًا عابرًا قلقًا لا يمكن الإمساك به (؟؟؟ أكمل إلى: عاطفتنا، ص519)».
بقية هذا القسم مكرّس لفيرناندو وخورخينا والدة أليخاندرا ومحبوبة برونو، حيث يحكي برونو ذكرياته مع كل منهما ويلقي أضواء كاشفة على نمو نزعات الشر في نفس “الشيطان” فيرناندو، وانسحاق خورخينا في حبه وخشيته وتقديسه، كان علاقة فيرناندو وخورخينا علاقة «كبير كهنة يتبعه مؤمن واحد»، «كأنهما عالمان متضادان ولكن تربطهما على نحو ما علاقة حميمة، مبهمة ولكنها وثيقة جدًا». أما برونو فيصف نفسه لدى وصوله كطرف في تلك العلاقة قائلًا: «وكأني حين وصلتُ أصبحتُ الضحية الوحيدة لتلك العبادة المخيفة». يرصد برونو مأساة فيرناندو وتفكك هويته، من خلال محادثاته مع خورخينا: «كان يقول لها: هأنا أشاهدك، أعلم أنني هنا إلى جانبك، ولكن أعلم كذلك أنني في مكان آخر بعيد جدًا، في غرفة مظلمة ومغلقة، إنهم يفتشون عني كي يقتلعوا عيني ويقتلوني»، «وكان يهبط من أشد الحالات هيجانًا وعنفًا إلى أكثر الحالات هدوءًا أو اكتئابًا، فينقلب – كما كانت خورخينا تقول- إلى أشد مخلوقات العالم بؤسًا وضعفًا وينزوي كطفل صغير محتميًا بتنورة ابنة خاله». كما يرصد هوسه بالمال، وهوسه بالعميان وكل ما يمت لهم بصلة، ذلك الهوس الذي كان أخطر وأشد جلاء.
في نهاية الرحلة، بعد احتراق حبه ها هو مارتين ينطلق هائمًا على وجهه في شوارع بوينس أيرس «؟؟؟ هنا ننقل ص608 من “سار لا يرى… إلى: ومستخدميها”». وتمتد مسيرة مارتين العبثية بالتوازي مع مسيرة الجنرال لافاجي متجهًا بفلول جيشه الممزق المهزوم إلى بوليفيا، ثم يسقط قتيلًا ويتابع أنصاره وجهتهم نحو الشمال حاملين جثمان القائد المتفسخ، «وصوت خافت يغني:
حمامتي البيضاء
اعبري الوادي
اذهبي للجميع وقولي:
لقد مات لافاجي».
هم يسيرون نحو الشمال، بينما يسير مارتين إلى أقاصي الجنوب، في فلاش باك يستعيد ذكرى رحلته إلى باتاغونيا«حصن الأمل الأخير، خليج بلا جدوى، مرفأ الجوع، جزيرة الوحشة! أسماء كان يتطلع إليها طيلة سنوات، منذ الطفولة في تلك العُلّية أثناء ساعات طويلة من الحزن والوحدة، أسماء توحي بمناطق نائية ومعزولة عن العالم، ولكنها نظيفة وصلدة، وبالغة النقاء، أماكن يبدو أنها لم تدنس بعد».
أخيرًا، لا بد من الإشارة إلى تميز ترجمة عبد السلام عقيل، حيث تمكنت من الإحاطة بعالم نص متعدد المستويات والأساليب، غني بالشعرية والإشارات الفلسفية والموسيقى والصوفية والبوذية وتناسخ الأرواح، ونقل ذلك في عربية في أعلى طبقات الفصاحة والدقة والبساطة في آن واحد. بالإضافة إلى هوامش تفسيرية دقيقة وموجزة وفي المكان المناسب دائمًا دون استعراض ممجوج أو تقصير معيب، ومقدمة موجزة وقيمة عن الكاتب والرواية وشيء من تاريخ الأرجنتين الحديث.
مقتطفات من الرواية
«أحد أعراض الروح المزعزعة المأساوية، وأحد أعمق خفاياها، هو استحالة كينونتها إلا عبْر اللحم» ص162.
ها هي بوينس أيرس
الزمن الذي يأتي للناس بالحب أو الذهب
لا يكاد يترك لي سوى هذه الزهرة الذابلة،
هذه الشبكة التي لا فائدة منها من شوارعَ
تكرِّر الأسماء الماضية ممَّن من دمهم تحدرت:
لابريدا، كابريرا، سولير، سواريس…
أسماء ما زالت تدوي مرددةً الأهداف السرية،
والجمهوريات والخيول والأصباح،
نشوة الانتصارات، وممات العساكر
بورخيس
«عندما يكون المرء طفلًا، ينتظر السعادة الكبرى، السعادة الهائلة المطلقة، وفيما هو ينتظر تحقيق تلك الظاهرة، يفوّت لحظات سعادة قصيرة هي الوحيدة المتاحة، أو لا يقدرها حق قدرها…. تصور متسولًا يستهين بما يقدم إليه من صدقات في الطريق لأنه حصل على معلومات عن كنز كبير، كنز ليس له وجود» ص201.
«ما أقل ما تبقّى، وما أتعس ما تبقى من تلك المسيرة نحو العدم!» ص207.
«تعثّر بكلب صغير من تلك الكلاب المشردة الجائعة التواقة للعطف على مصيرها التافه (الضئيل ضآلة جسمها الصغير وقلبها الصغير الذي يقاوم بشجاعة حتى النهاية دفاعًا عن تلك الحياة البسيطة المتواضعة، كأنها في حصن ملغوم)، فالتقطه لينأى به إلى ركن ما يقيه البرد، على الأقل، وليقدم له ما يسدّ به رمقه، مضفيًا على وجود ذلك الحيوان المسكين معنًى أشد غموضًا وأشد جبروتًا مما يبدو أن الفلسفة تضفيه على وجوده هو من معنى. مثلهما مثل مشردين وحيدين يضطجعان معًا ليمد كل منهما الآخر بالدفء» ص207.
«شخص يعني قناع، ولكل امرئ أقنعة كثيرة: قناع الأب، قناع المعلم، قناع العاشق، ولكن أي قناع منها هو الحقيقي؟ وهل هناك في الواقع واحدٌ منها حقيقي؟» ص214.
«أعتقد أن الحقيقة تصحّ في الرياضيات والكيمياء والفلسفة، وليس في الحياة؛ ففي الحياة يكون للوهم والخيال والرغبة والأمل أهمية أكبر. ثم: هل نعرف حقًا ما هي الحقيقة؟»ص223.
«في بلد الحاقدين هذا، يصبح المرء عظيمًا حين يتخلى عن أن يكون كذلك» ص234.
«كان شكسبير خير من مثّل إنجلترا في عصر الملكة إليزابيث، مع أن مسرح الكثير من أعماله لم يكن إنجلترا»ص237.
«الذاكرة هي التي تتصدى للزمن… وما كُنّاه، أو لنهاية الصفحة»ص248.
«في هذا البلد إذا كان لدى أحدهم ثروة، أحاطوه بالعناية وأصبح سيدًا مرموقًا حتى لو كان قاطع طريق!»ص254.
«إننا دائمًا نلبس قناعًا، لا يكون هو ذاته باستمرار، بل يتغير وفق الأدوار المقررة لنا في هذه الحياة: قناع المعلم، قناع العشيق، قناع المثقف، قناع الزوج المخدوع، قناع البطل، قناع الأخ الرؤوف. ولكن أي قناع نضع، أو أي قناع يبقى لنا عندما نكون في عزلة؟ عندما نعتقد أن أحدًا لا يرانا ولا يراقبنا ولا يسمعنا ولا يسألنا ولا يتوسل إلينا ولا يتهددنا ولا يهاجمنا؟ لعل الطبيعة القدسية لتلك اللحظة تعود إلى أن المرء يكون حينئذ وجهًا لوجه أمام الذات الإلهية، أو – في أقل تقدير- أمام ضميره الذي لا يهدأ»ص287.
«البيت: دفء وملجأ مضيء وحنون؛ ولذلك فإن العزلة تكون (كما قال برونو) أشد وطأة في ديار الغربة؛ لأن الوطن كالبيت والدفء والطفولة وكحضن الأم. ووجود المرء في دار الغربة أمر كئيب كالسكن في فندق مجهول، لا يكترث به أحد، لا ذكريات ولا أنساب ولا طفولة ولا خيالات. فالوطن هو الطفولة، ولعله كان من الأَوْلى أن يكون مؤنثًا كالأمومة»ص309.