بعد ساعات من بدء الاقتراع في انتخابات 17 ديسمبر 2022، اعترفت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات (الإيزي) والمعينة من الرئيس “قيس سعيد” بالعزوف غير المسبوق عن المشاركة أيضا بين المرأة والشباب مقارنة بالعشرية اللاحقة على الثورة. وفي المؤتمر الصحفي بعد يومين لإعلان النتائج الأولية الرسمية قال رئيسها “فاروق بوعسكر” أن 34 في المائة فقط بين المصوتين نساء ، فيما يبلغ نصيبهم من الناخبين المسجلين في الجداول (السجل الانتخابي) 51 في المائة. أما الشباب فقد جاء اعتراف (الإيزي) مبكرا بعزوفهم، وفي نهاية يوم الاقتراع، عندما صرحت بأن 70 في المائة من المصوتين كهول وشيوخ تفوق أعمارهم 45 سنة، وعلما بأن تونس مجتمع يغلب عليه الشباب.
توجهات الرئيس “المحافظة”
وللعزوف غير المسبوق بين التونسيات هذه المرة عوامل متعددة تستحق إلقاء الضوء عليها. فبالأصل الرئيس “سعيد” معروف بتوجهاته وآرائه “المحافظة” تجاه حقوق المرأة والعديد من مقومات الحريات الفردية، وحتى قبل توليه الرئاسة. ولاحقا وعندما تمكن من الإنفراد بالسلطة وإعادة صياغة نظام الدولة بعد 25 جويلية / يوليو 2021 تعمد تصميم نظام انتخابي ينتقص من مكتسبات المرأة السياسية بفضل الثورة. واللافت أن المرأة التونسية حققت خلال العشرية التالية للثورة مكتسبات إضافية على الصعيد الاجتماعي وأبعد من زيادة وترسخ التمثيل السياسي لها. وعلى سبيل المثال ، سن البرلمان في 2017 قانون القضاء على العنف ضد المرأة مع وضع آليات لتنفيذه. كما توقف تضييق سلطة الدولة على المحجبات في الفضاءات العامة، بما في ذلك أماكن العمل والدراسة.
استبدل الرئيس “قيس سعيد” دستور الثورة 2014 حصيلة النقاش المجتمعي والسياسي والفكري الكبير والصعب وما استحدثه من نصوص تقدمية فريدة في محيطها العربي بالنسبة للحريات العامة والفردية وحقوق المرأة بدستور 2022 الذي خطه بنفسه. ثم ألغى ضمانة التناصف بين الرجال والنساء عند الترشح للانتخابات البرلمانية. وهي الضمانة الدستورية والقانونية التي مكنت المرأة التونسية من خلال نظام القائمات الحزبية والائتلافية والمستقلة من نسبة تمثيل معتبرة في البرلمان. وهكذا ارتفع نصيبها إلى 72 من إجمالي 217 مقعدا وبنسبة 31 في المائة بالمجلس التأسيسي (2011 ـ 2014) ، وإلى 76 مقعدا وبنسبة 33 في المائة مع برلمان (2014 ـ 2019) كما دخل برلمان (2019 ـ 2021) 57 إمرأة بنسبة 26 في المائة، وقبل أن يضاف إليهن المزيد مع تولى عدد من النواب ممن كانوا على رأس القائمات الفائزة مناصب وزراية.
والآن إذا ما مضى الرئيس “قيس سعيد ” بتونس إلى الشوط الأخير في هذه الانتخابات وأجرى مرحلة الإعادة على 140 من إجمالي 161 مقعدا فإن نصيب المرأة سينخفض حتميا بشكل درامي. وبالأصل ومن المنبع فإن 122 إمرأة تخوض هذه الانتخابات وبنسبة لاتتجاوز 11 في المائة من إجماليالمرشحين. وهذا بعد إلغاء نظام القائمات ومعه التناصف بين الذكور والإناث ، ومع اعتماد التنافس الفردي ما يرجح إحياء العصبيات الجهوية والعروشية، ومعها انتماءات ما قبل المواطنة. وهو ما يقطع حتى مع ميراث “دولة الاستقلال” الذي تبني نظام القائمات منذ البداية، ومع انتخاب المجلس القومي التأسيسي عام 1956. وثمة هنا تفسيرات متعددة بين المؤرخين التونسيين لخيار القائمات المبكر بعد الاستقلال لا يمكن أن نغفل من بينها الرغبة في تجاوز الانتماءات دون المواطنة، و السائدة بخاصة في المناطق والجهات الريفية والبدوية.
الأكثر “محافظة ” تجاه حقوق المرأة
والحقيقة أن الرئيس “سعيد” صاحب التوجهات “المحافظة” وقبل أن يسكن قصر “قرطاج” عنده مشكلة مع المجتمع المدني النسوي التقدمي وطموحاته، وإلى حد الاختلاف وإن لم نقل التنافر. وهذا على عكس الرئيس السابق المرحوم ” الباجي قايد السبسي” الوريث السياسي للحبيب بورقيبة الزعيم ومؤسس “الدولة الوطنية”. وتعزى إلى شخصية ” السبسي” وتوجهاته مشاركة النساء بكثافة وبأعلى نسبة في الانتخابات التشريعية والرئاسية خريف 2014 بين كافة استحقاقات بعد الثورة. فقد شاركن بكثافة في الاقتراع، وصوتن “للسبسي” ولحزبه “نداء تونس “، وأوصلوه إلى قصر “قرطاج” الرئاسي في مواجهة حزب “النهضة” الإسلامي وتصاعد ضربات الإرهاب باسم الدين ومخاوف الانتقاص من حقوق المرأة الموروثة من عهد “بورقيبة”. وامتلك الرجل من موقعه في “قرطاج” شجاعة أن يطرح للنقاش على المجتمع في عيد المرأة التونسية 13 أغسطس 2017 المساواة في الميراث بين المرأة والرجل. كما ألغى وبالفعل قرارات حكومية وإدارية نافذة منذ ماقبل الثورة تمنع زواج التونسية المسلمة بغير المسلم من مواطنيها أو الأجانب.
وهذه التوجهات تحفظ عليها وعارضها “قيس سعيد”. بل يمكن أن نصفه دون تجن أو شطط في الحكم بأنه أكثر رؤساء الجمهورية “محافظة” تجاه قضايا المرأة بالمطلق. وبالطبع لا يمكن مقارنته في هذا الشأن بالرئيس الأسبق “المنصف المرزوقي” أحد رموز الحركة الحقوقية التونسية، والذي تبني دون لبس المبادئ الكونية العالمية لحقوق الإنسان ، بما في ذلك حقوق المرأة. بل ويمكن القول كذلك بأن الرئيس “سعيد” في هذا المجال أجرأ تعبيرا عن “محافظته” من قادة حزب “حركة النهضة”.
كما لدى الرئيس “قيس سعيد” مشكلة أظنها كامنة وأوسع نطاقا مع الحركة الحقوقية التونسية، والتي تعد الأقدم والأعرق في العالم العربي وأفريقيا. وفي هذا السياق، يؤخذ عليه سلبيته إزاءها وغربته عنها منذ تأسيسها في عقد السبعينيات. وزد على هذا، أن هذه الحركة انتقلت إلى معارضته عندما استفاقت ولو متأخرا لخطورة تداعيات 25 جويلية على الحريات، وعندما عاينت ما لحق هذا التاريخ سريعا من وقائع بلاحصر لانتهاكات غير مسبوقة بعد الثورة تجاه معارضي الرئيس، وعلى غرار المحاكمات العسكرية للمدنيين والعدوان على حرية الصحافة.
قراءة لغة الجسد بين “سعيد” و”نجلاء”
وتأتي مؤشرات العزوف عن المشاركة في انتخابات 17 ديسمبر لترجح أن مبادرة الرئيس ” سعيد ” تعيين إمرأة في منصب رئيسة الحكومة للمرة الأولى بتاريخ البلاد سرعان ما أعادت نساء تونسيات وعلى نطاق واسع قراءتها بما يبطل استثمارها الدعائي والسياسي إيجابيا. وإذ اتضح كون السيدة “نجلاء بودن” لا يمكنها إلا أن تظهر بحضور باهت هامشي و”أنثوي خجول” إلى جانب “الرئيس الذكوري القوي”.وتبدو علاقة السيدة “بودن” بالرئيس ترسخ صورة نمطية لها كإمرأة ضعيفة مهيضة الجناح خفيضة الصوت ، يستدعيها لتجلس أمامه ساكنة منكمشة على ذاتها، وهي تستمع بصبر دون نقاش أو كلام. وهو كأنه يستعملها كناقل صوت أو رسائل مكرورة يخاطب من خلالها بغضب وتشنج جمهورا غائبا يتخيله.
ويضاف إلى هذا أن السيدة “بودن” تبدو عند جموع التونسيين بلا صلاحيات ولا رأي. بل وظهرت في مناسبات عامة كرقم (2) بعد قرينة الرئيس. وكل ما سبق يعزز إدراك قطاعات من التونسيات والتونسيين بالتوازن المختل حد التطرف في العلاقة الظاهرة بين “رئيس الدولة” و”رئيسة الحكومة”، أو مايسمى تاريخيا في تونس بعد الاستقلال “الوزير الأول”. ولعل من المفيد هنا مقارنة “لغة الجسد” في جلوس السيدة “بودن” أمام الرئيس “سعيد” بما لاحظت في أرشيفات صحف الثمانينيات بالمكتبة الوطنية بتونس كيف كان يجلس الوزير الأول السيد “محمد مزالي” أمام الرئيس “بورقيبة” منتصب القامة، بل ويضع ساقا فوق ساق.
عزوف الشباب.. لماذا؟
ويتعلق الضعف غير المسبوق للمشاركة في انتخابات 17 ديسمبر بكتلة أخرى حرجة، هي الشباب. وتأتي هذه الانتخابات لتؤشر إلى ما أصابه من إحباط بدوره من وعود الرئيس “قيس سعيد” المؤجلة بلا أفق كي ينصفه وينتشله من إهمال واستغلال من يصفهم “بالسياسيين الفاسدين”. مر الوقت ويمر بعد 25 جويلية 2021 حين انفرد “سعيد” بكل سلطات الدولة تقريبا دون أن يشهد الشباب نقلة مؤثرة تعالج معاناته من البطالة والتهميش ، نقلة ترتفع إلى مستوى “خطابه الشعبوي”. بل زاد على هذا أن الرئيس يماطل في إصدار الأمر التنفيذي لتطبيق قانون أقره البرلمان الذي عطله وقام بحله يلزم الدولة بتوفير عمل للعاطلين منذ عشر سنوات ويزيد.
وفوق هذا، فإن عهد السلطة المطلقة لـ” الرئيس سعيد” لم يعرف تغييرا ملحوظا في العلاقة المتوترة وتاريخيا بين شباب الأحياء الشعبية والبوليس (قوات الأمن بشقيها الشرطة والحرس الوطني). بل جاءت تصريحات الرئيس في غير مناسبة إلى جانب قوات الأمن في صداماتها معهم. وهو ما قرأته قطاعات من هؤلاء الشباب بوصفه ضمانا لولاء المؤسسة الأمنية ذات الأولوية وتوظيفها في صراع الرئيس مع معارضيه.
وباستثناء قرارت “سعيد” تعيين نفر من وجوه الشباب ممن كانوا في الحركات الاجتماعية قبل صعوده للسلطة بمناصب تنفيذية مثل الولاة والمعتمدين (رؤساء المدن) يصعب أن نلحظ تغييرا جوهريا في سياسة حكومته عن سابقاتها إزاء هذه الاحتجاجات أو أسبابها. بل والأخطر أن هناك مؤشرات على أن الظروف أصبحت مواتية أكثر عن ذي قبل لمواجهة أكثر خشونة وعنفا من أجهزة الدولة وبوليسها إذا ما شهدت تونس مستقبلا موجة جديدة قوية من هذه الاحتجاجات. وهو أمر غير مستبعد على ضوء تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية عما كانت قبل 25 جويلية.
وبالأصل يعد “الرئيس سعيد” بحكم العمر (تجاوز 64 سنة) استمرارا لظاهرة هيمنة “كبار السن” ـ إلا فيما ندر ـ على مؤسسات الحكم والسياسة بعد الثورة، والتي كان وقودها الشباب وفي مقدمة صفوفها. ويبدو أن الاعتبارات السابق ذكرها بشأن تعقيدات علاقة الرئيس بالشباب قد أفقدت “مبادراته الرمزية” إزاءهم تأثيرها ولمعانها. والمقصود مبادرات مثل “الشركات الأهلية” وبيع “الأراضي الدولية/ المملوكة للدول”. ناهيك عما أصبح بمثابة ذكريات بعيدة نائية تحفظها صور باهتة توارت اليوم تظهره وهو يسكن في حي “المنيهلة” الشعبي بضواحي العاصمة أو يدخل مقهى متواضع ليجلب بنفسه القهوة ليشربها وسط زحام رواده.
وما حدث بعد أن راجت صور “للرئيس سعيد” وهو يتحرك في مواكب / أساطيل من السيارات الفخمة. ويمشى على سجاد أحمر وثير. ويحيط به أينما حل ـ وحتى وسط المواطنين في الشوارع ـ كوكبة من رجال أمن لشخصه أشداء أنيقي الملابس، يخفون أعينهم بنظارات شمس سوداء، ولو فيالليل البهيم. وهكذا وعلى نحو لم يلاحظ على سلفيه في الرئاسة “الدكتور المرزوفي” والمرحوم ” السبسي”. وكأن “سعيد” ـ ومعه من يمثلهم ويدعمونه ـ وهو يعيد انتاج سطوة وهيبة “الدولة” التي هددتها الثورة وما تلاها من عشرية يتورط بالمبالغة في مظاهر القوة والفخامة حول “رأس الدولة ورمز هيبتها”، وعلى نحو يستفز المجتمع ، وبخاصة الشباب الفقير والمهمش.
وعلى أي حال، فإن “شعبوية” الرئيس “قيس سعيد” تتعرض بعد 25 جويلية لجملة تحديات على هذا الصعيد. فمن جانب هناك انتقادات بدأت تطل برأسها عن انعدام الشفافية بشأن ما يتردد عن تضخم نفقات رئاسة الجمهورية. وكان من الطبيعي أن ينخفض مستوى شفافية السلطة في تونس مع غياب برلمان يناقش تفاصيل ميزانية الدولة كما كان بعد الثورة ، وفي ظل الانتقاص من مساحة الحريات وبخاصة حرية الصحافة. ومن جانب آخر، أصبح مطروحا أمام التونسيين العودة للمقارنة بين الفساد في ظل نظام سلطوي مغلق وبين الفساد تحت ملاحقة ورقابة معارضة برلمانية وصحافة حرة وهيئات رقابية مستقلة. وهذا وإن ظل ” لسعيد” بين قطاعات من التونسين مصداقيته كرجل نظيف لم يتورط في الفساد.
ومن جانب ثالث، فإن ضغط تدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية على الطبقات الشعبية والوسطى من شأنه أن يدفع إلى مقارنات مع الإنفاق على مايسمى بـ “هيبة الدولة” في ظل غياب الشفافية الكافية. وفي كل الأحوال، فإن هذا التدهور ألقى بظلاله بشكل مباشر على يوم انتخابات 17 ديسمبر، حيث قارن مراقبون بتونس وبالصور الفوتوغرافية بين خلو لجان ومكاتب الاقتراع شبه التام من الناخبين وبين الطوابير الطويلة لمواطنيهم في الوقت نفسه طلبا للحليب وغيره من المواد الغذائية الأساسية والتي باتت شحيحة مرتفعة الأسعار.
أزمة ثقة مع البرلمان وهيئة الانتخابات
عزوف الناخبين غير المسبوق في تونس بعد الثورة قد يرجع أيضا إلى قناعة تولدت بين الناخبين بعبث ولاجدوى برلمان تم الانتقاص من صلاحياته إزاء الحكومة ورئيس الدولة، وبما في ذلك إسقاط ما كان من حقوقه في منح الثقة للحكومة وسحبها منها ومساءلتها. فضلا عن تجريد النواب الجدد من الحصانة، وحرمان ما كان للمعارضة داخل البرلمان في الدستور والبرلمان بعد الثورة من صلاحيات وتمكين، وبما في ذلك رئاسة لجنة المالية التي تناقش الميزانية السنوية للدولة.
وأمامنا افتراض آخر في تفسير العزوف الأكبر للناخبين. ويتعلق بما طرأ على رصيد الثقة السابق في الهيئة العليا المستقلة للانتخابات (الإيزي)، والتي راكمته منذ أول استحقاق بعد الثورة في عام 2011. والحاصل أن الرئيس “سعيد” أقال مجلسه المنتخب من البرلمان وقبلها من الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة وعبر توافقات صعبة بين القوى السياسية والمجتمعية. واستبدل محله وقبل استفتاء دستور 2022 مجلسا عينه بنفسه مستعينا ببعض أعضاء المجلس السابق المنسجمين مع مشروعه وقراراته بعد 25 جويلية.
وفي الممارسة العملية بعدها، وبخاصة مع استفتاء 25 جويلية على الدستور الجديد، أعطى رئيس (الإيزي) الجديد ومجلسها الإنطباع بانصياعه الكامل لرغبات الرئيس “سعيد” واستعداده لابتلاع وتبرير أي خرق ضد القوانين والأعراف الديمقراطية. وكذا ضد التقاليد الانتخابية التي كانت مرعية بعد الثورة، ومن بينها احترام الجميع للصمت الانتخابي، بما في ذلك رئيس الجمهورية نفسه ومتطلبات حياد الهيئة ذاتها.
ولاشك أن الاستفتاء على الدستور الجديد و الطعن على مصداقية نسب المشاركة فيه أسهم بقسط وافر في ترسيخ قناعة عند قطاعات من الناخبين بأن (الإيزي) لم تعد كما كانت على استقلاليتها ونزاهتها وحيادها واحترافيتها، وأن زمن الثقة في القبول بنتائج انتخاباتها خلال العشرية اللاحقة للثورة ولى، وأن “ريمة عادت لعادتها القديمة” .
وجاء يوم الاقتراع 17 ديسمبر ليكثف قناعة بالعودة لممارسات اختفت بعد الثورة أو كادت، إذ رصد ملاحظون ووثقوا وقائع نقل جماعي للناخبين، ودعاية ورشوة وتوزيع أموال أمام اللجان، ومنع ملاحظين للمجتمع المدني ومندوبين لمرشحين من الدخول لمكاتب الاقتراع والتنقل بينها ، والتضييق على الصحفيين في التصوير .
وهذا فضلا عما لاحظت بنفسي من تحيز سافر لتلفزيون الدولة يوم الاقتراع لخيار الرئيس “قيس سعيد” والتجاهل التام للمقاطعين والعازفين عن المشاركة. بل وتبني رئيس “الإيزي” وبعض أعضاء مجلسها لخطاب سياسي وتبريري ومرتبك ومخالف للحقائق، و في تجاوز للحياد ومهنية والاحترافية والواقع من أجل “خيار الرئيس”. ولفتني أيضا من المتابعة عبر شاشات التلفزيون على البعد ما استجد في تجنب غالبية رؤساء فروع (الإيزي) تقريبا التصريح للإعلام بأرقام من انتخبوا وبالنسب المئوية من إجمالي المسجلين لديهم. وهذا بالتناغم مع تجاهل غالبية مراسلي تلفزيون الدولة في اللجان تقديم معطيات إحصائية عن تقدم التصويت. بل تورط (الإيزي) وتلفزيون الدولة مع الساعات الأولى ليوم الاقتراع في إعطاء انطباعات غير صحيحة عن المشاركة بأنها “كثيفة ” أو “عادية ” أو “متوسطة” أو مماثلة لما كان في الاستحقاقات السابقة.
مفعول ” المرايا العاكسة” من الخارج
ويمكن أن نضيف إلى ما سبق ما تناهى لجموع الناخبين التونسيين من أصداء انحسار الاهتمام العالمي بهكذا انتخابات تونسية ، مقارنة بما كان في عشرية ما بعد الثورة. ولا شك أن التدفق الهائل للمعلومات والآراء من خلال شبكات التواصل الاجتماعي والأطباق اللاقطة للفضائيات الدولية عزز عندتونسيين قناعات بعبثية وهامشية هذه الانتخابات ، وبمفعول يشبه ” المرايا العاكسة “. ويبرز في هذا السياق، إعلان البرلمان الأوروبي للمرة الأولى بعد الثورة الامتناع عن إيفاد بعثة لملاحظة الانتخابات بتونس. وزد على هذا فإن ملاحظة أو مراقبة المجتمع المدني المحلي للانتخابات التشريعية قد انحسرت. ويكفي للتدليل على هذا أن عدد الملاحظين المحليين المعتمدين من (الإيزي) في عام 2011كان نحو 13 ألفا و 400 ملاحظ ، وارتفع إلى نحو 28 ألفا في 2014 و 17 ألفا و500 في 2019، ثم لم يتجاوز 4 آلاف و500 ملاحظ مع انتخابات 17 ديسمبر 2022.
وفي كل هذا وغيره ما يعزز فقدان الثقة في عملية الانتخاب وهيئتها والقبول بالنتائج. وجميعها كانت من مكاسب عشرية ما بعد الثورة.
.. والسؤال الآن ..وماذا بعد ؟