كيف تشكل حلف “25 جويلية” وما هي مآلات مكوناته؟
اختفت الدلالة الخطيرة لأن يغلق رئيس الدولة مساء 25 جويلية/ يوليو 2021 البرلمان بدبابة جيش خلف حجب المبالغات والضغائن والمكايدات الشخصية وشهوة التشفي والانتقام بين النخب السياسية والمثقفة. وبدا من الصعب أو المستحيل في تونس كسر دائرة ممارسة السياسة بالمشاعر والعواطف بدلا من إعمال العقل والنظر بموضوعية.
ومع أن هذا المشهد إلى جانب العديد من المؤشرات أفاد بأن الزعم هذه المرة أيضا بحياد الجيش وغيره من أجهزة الدولة ، بعيدا عن الصراعات السياسية واحترامها للدستور بمثابة خرافة تتحداها وقائع عديدة سابقة في تاريخ الدولة التونسية بعد استقلال 1956.
فقد جرى توظيف قوات الجيش من رئاسة الدولة ونظام الحكم بشكل مباشر لقمع انتفاضتي يناير 78 و 1984 ، أو بشكل غير مباشر مع فض اعتصام القصبة الأول بحلول مطلع فبراير 2011 حين انسحب الجيش ليفسح المجال لقوات وزارة الداخلية. لكن هذا لاينفى عن جنرالات القوات المسلحة بتونس أنهم تاريخيا بين جيوش الدول العربية الأقل تورطا وطموحا في حقل السياسة. كما ولا ينكر عليهم انحيازهم للثورة وحمايتهم لها في الأغلب.
ارتياح لحركة تصحيحية
وجد انقلاب 25 جويلية تأييدا وارتياحا بين التونسيين. وعلاوة على أنه ارتدى قناع “الحركة التصحيحية للثورة”، فقد جرى تمهيد الأرض له وحتى قبل وصول الرجل للرئاسة. وكثفت أجهزة إعلام الثورة المضادة داخل تونس ومن الإقليم خارجها جهودها قبل أسابيع. وأخذت ترفع سقف التوقعات وتنفخ في مبالغات وأكاذيب حول مظاهرات في الشارع للإطاحة بالبرلمان تقودها في الأغلب “عبير موسى” رئيسة الحزب “الدستوري الحر” معيدة توظيف فزاعة (الإخوان / النهضة) وأولوية التخلص منهم وإقصاء “النهضويين” تماما.
كان لقيادة “النهضة” أخطاؤها في حق التغيير والثورة وحقوق المواطنين، كما كان لخصومها.
وعلى كل الأحوال، فإن الناخبين أخذوا في معاقبتها فانخفض حظها من نحو مليون و400 ألف صوت و89 مقعدا بالمجلس التأسيسي عام 2011 إلى نحو نصف مليون و52 معقدا في برلمان 2019. ولم يكن صحيحا على أي نحو ، دعاية أعداء الثورة في الداخل والإقليم بأن السلطة كانت في أيدي “النهضة” تماما ووحدها وعلى مدى عشر سنوات، أو كون الرئيس “قيس سعيد” وخصومها إلى حد الإقصاء والاستئصال كحزب “عبيرموسى” غير مسئولين هم أيضا عن أزمة البلاد. ويكفي هنا الإشارة إلى أن كافة رؤساء الحكومات والعديد من وزرائها بعد انتخابات 2019 كانوا من اختيار الرئيس “سعيد” نفسه، وليس “النهضة”.
استطاعت “النهضة “بتحالف غير مبدئي مع حزب “قلب تونس” أن تصل برئيسها “راشد الغنوشي” إلى رئاسة البرلمان. لكن العديد من اختبارات القوى تحت القبة أظهرت أنها لاتمتلك أغلبية حاسمة أو مريحة. وتكفي الإشارة هنا إلى الاخفاق في توفير موافقة أغلبية البرلمان المطلوبة لتمرير حكومة “الحبيب الجملي”، وهو بالمناسبة من خارج النهضة.
وتكفي كمثال آخر الإشارة إلى إسقاط مشروع قانون “للنهضة” وائتلاف الكرامة في 10 ديسمبر 2019 بإنشاء صندوق للزكاة، وقد سقط بأغلبية 93 معترضا و17 متحفظا مقابل تأييد 74 من 187 حضروا من إجمالي 217 نائبا هم كل أعضاء البرلمان. وكنت عندما زرت تونس في أكتوبر 2019 لاحظت أن إنشاء هذا الصندوق يشغل جانبا مهما من دعاية الشوارع لبرنامج “النهضة” الانتخابي.
مفعول الثقافة المحافظة للبيروقراطية
ثمة أيضا جانب غير إرادي أو متعمد مصنوع في فهم هذا التأييد والإرتياح لانقلاب 25 جويلية بين قطاعات جماهيرية، وليس بالطبع كل الشعب التونسي. كان هناك الإحباط واليأس جراء الإخفاق في التغيير بعد عشر سنوات من الثورة وما أطلقته من آمال ظلت بعيدة عن الإنجاز. ومثل هذا الإحباط تفاعل وجرى إعادة توجيهه بواسطة دعاية قوى الثورة المضادة بالداخل والخارج القائلة بأن عهد الرئيس “بن علي” كان أفضل. وأيضا بالزعم أن تونس بلد لا يمكن حكمه إلا “برئيس قوي مطلق الصلاحيات”، وليس ببرلمان وحكومات ائتلافية سرعان ما تتنافر مكوناتها، وأن التونسيين ليسوا بحاجة إلى برلمان صاحب سلطات رقابية على الحكومة أو للحريات.
ويضاف إلى هذا ما لمسته خلال نقاشات تعددت مع عدد من كبار رجال الإدارة التونسية ، وفي وزارات مختلفة على مدى سنوات سابقة من “ثقافة محافظة” تنفر مما تعتبره السماح بجرعة زائدة من الحريات للمواطنين، ومن الاحتجاجات الاجتماعية في الشارع وتجاه مؤسسات الدولة وفي مواقع الانتاج، باعتبارها”فوضى” تتحدى “هيبة الدولة” ذاتها ، وتعرقل عجلة الانتاج”.
كما كان هناك عدم ارتياح لما يسمى ” بطبقة السياسيين والحزبيين الجدد” ووطأة رقابة علنية غير مألوفة أو مسبوقة من البرلمان على كبار رجالات الإدارة التونسية. وهذا على الرغم من أن من يطلق عليهم “الكفاءات” غير المسيسة بالأساس كان لهم نصيب وافر في رئاسة الحكومة ، كأسماء “مهدي جمعة” و “الحبيبالصيد” و”يوسف الشاهد”وحتى “هشام المشيشي” الذي أطاحت به 25 جويلية.
واللافت أن هكذا “ثقافة محافظة” بما تحمله من نفور وعدم ارتياح تمتد إلى الاتحاد العام التونسي للشغل ، كأكبر وأعرق نقابة عاملين يتحدى نمو نفوذها التاريخي شبه المستقل (منذ ماقبل الاستقلال ومع الدولة بعده) في المجالين العام والسياسي ، يتحدى سلطة الدولة ويربكها ويهدد “هيبتها”.
وعلى أي حال، فسلوك ومواقف البيروقراطية من الثورة والانتقال إلى الديمقراطية أمر يتطلب النظر بالأصل من خلال مباحث علوم السياسة والإدارة عالميا بشأن بطء استجابة البيروقراطيات ومقاومتها للتغيير المجتمعي والسياسي، وحتى لو توافر لهذا التغيير أحيانا تأييد وحماس وقيادة في أعلى السلطة.
ويصعب بالنسبة لي على البعد تقدير صحة ما تم نشره وإشاعته عن حجم التعبئة الشعبية في الشارع يوم 25 جويلية. سألت حينها مصادر متعددة داخل تونس، فجاءت التقديرات متباينة. لكن يقينا لم تكن هذه التعبئة لا في مستوى 14 يناير 2011 بشارع الحبيب بورقبية في قلب العاصمة حيث مقر وزارة الداخلية يوم الإطاحة بالدكتاتور “بن على”، ولا حتى آخر مسيرة جماهيرية نظمتها حركة “النهضة” في 27 فبراير 2021 . ولا هي تقارن بأي من المسيرات الضخمة التي نظمتها “جبهة الخلاص” المعارضة للرئيس “قيس سعيد” (وتضم النهضة) بعد 25 جويلية.
حلف 25 جويلية
يتكون الحزام السياسي الاجتماعي الداعم للرئيس “قيس سعيد” الذي برز مع 25 جويلية وفي أعقابها من مكونات عديدة سنتوقف عند أبرزها ، مع الإشارة هنا إلى مآلات مواقفها بعد استفتاء الدستور الجديد والانتخابات التشريعية.
هناك أولا العناصر الأكثر حسما في انجاح خطوات 25 جويلية واجراءاتها وهي القيادات والكوادر العليا لمؤسستي الأمن والجيش وأجهزة الاستعلامات (المخابرات). وقد حرص الرئيس “سعيد” على تكثيف اللقاءات والاجتماعات معهم، وإبراز توطيد صلاته بهم. وبالطبع كغيرها من الانقلابات (*)،سارع قائدها / رئيس الدولة بإدخال تغييرات على العديد من المناصب القيادية في هذه المؤسسات والأجهزة لضمان الولاء لشخصه ولإجراءاته من المؤسسات والهيئات وضد القوى المعارضة المحتملة.
ظهر ومازال الرئيس في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وبكثافة وهو يروج لخطابه السياسي الصدامي ويهاجم خصومه السياسيين بحضور هذه القيادات. و بدا أن حلقة وثيقة من بينهم سرعان ما أحاطت بالرئيس، وجعلته أسير هواجس أمنه وتأمين سلامته. الأرجح كما في سنن الإنقلابات وفقهها أنه أصبح هو بدوره أيضا أسير هذه الحلقة، واستنادا إلى تجارب عديدة في العالم بشأن صعود ومسار الدكتاتوريات.
التنسيقيات السعيدية وتنظيمات ما بعد 25 جويلية
من بين حلف قيس سعيد تبرز مجموعات شبابية ساخطة على الأحزاب والسياسيين بالمطلق . وقد ظهرت مع الانتخابات الرئاسية خريف 2019 هذه المجموعات اعتبارا من مرحلة جمع التزكيات لـ”قيس سعيد “المرشح المستقل تحت مسمى “التنسيقيات”. ثم بطوال حملته الانتخابية التي أطلق عليها “تفسيرية”. ولقد أتيح لي خلال زيارة تونس أكتوبر من ذلك العام لقاء أعداد من هذا الشباب. وتحيرت حينها في فهم أقوال وسلوكيات العناصر اللصيقة منهم بحملته الانتخابية وفي مكتبها الرئيسي بنهج “ابن خلدون” بوسط العاصمة، وذلك نظرا لغموض إجاباتهم وتصرفاتهم، وكأنهم أعضاء فيما يشبه “المحفل الماسوني”.
ولكن في ظل النشوة الجماهيرية بقراءة انتصار “سعيد” في الجولة الثانية بوصفه أصبح يحمل لواء “مرشح الثورة” ولأن أعداء الثورة على الصعيد الإقليمي ودعايتهم تفيد بأن الرجل ليس مرشحهم المفضل في الجولتين بل كانوا يدعون بأنه “إخواني”، فلم اكترث وغيري من الزملاء الصحفيين الأجانب كثيرا لما لمسته من “خشونة ميليشاوية” عندما عدت في ظهيرة اليوم التالي لإعلان نتائج الجولة الثانية لأقوم بالتقاط صور فوتوغرافية من الخارج لهذا المقر الانتخابي ، والحقيقة عشت دقائق في خطر لم اتنبه لدلالته إلا عندما تابعت بعدها بسنوات على شاشات التلفزيون عن بعد هذا “العنف اللفظي” مع ” الديماجوجية” والاتهامات والأحكام المطلقة بدون أسانيد الذي يعتمده معظم أنصار “قيس سعيد” بين هؤلاء الشباب دفاعا عن “25 جويلية” ومساره، وقائدهم الذي يختصر الشعب في ذاته و “مايريد هو”.
هذه “التنسيقيات” تبقى ويظهر منها مع انتخابات 17 ديسمبر 2022 وجوه أشبه “بالباندية ” ( لفظة تونسية تعني بلطجية عندنا). وعلى خطورتها لم أعثر على تقرير أو دراسة تشرح إلى ماذا انتهت هذه التنسيقيات مع تمكن “إلاهها” من سلطات الدولة الثلاث، ومعها أجهزة القوة من شرطة وجيش ومخابرات. وكان “رضا المكي” منظم ومنظر حملة “قيس سعيد” الانتخابية قد قال لي بعيد الانتخابات الرئاسية في حوار مطول نشره موقع جريدة “المشهد” في 1 نوفمبر 2019 إن هذه التنسيقيات لن تتطور إلى أحزاب أو حركات سياسية، وذلك اتساقا مع رفض الأجسام الوسيطة مع الشعب . وهو الشعب الذي شرح حينها “المكي” تصور “سعيد”عنه بأنه “شعب بلا لون”، وذلك مع وصم “النخب التقليدية” بأنها هي التي تحول الشعب إلى ألوان مختلفة.
كم من أعضاء هذه التنسيقيات يصعد في انتخابات “برلمان الرئيس”؟. لا أحد يمكنه لليوم إعطاء تقدير موثوق. لكن ماهو معلوم أن عددا من الحركات والأحزاب الجديدة التي ظهرت بعد 25 جويلية 2021 داعمة لهذا المسار، تختلط في قياداتها وجوه لأعداء الثورة ومن أنصار نظام “بن علي” بأخرى جديدة ظهرت في “التنسيقيات السعيدية”. ولكن عندما يصرح “فاروق بو عسكر” رئيس هيئة الانتخابات المعينة ( الإيزي الجديدة) في مؤتمره الصحفي يوم 27 ديسمبر 2022 بأن 170 من 262 يخوضون جولة الإعادة على 131 من إجمالي 161 مقعدا هم من موظفي الدولة والقطاع العام، يمكننا أن نتصور بأن “البيروقراطية” هي التي تسرع بملء “مؤسسات قيس سعيد “.
ناصريون في “حلف سعيد”
وعلى الرغم من خطاب “قيس سعيد” ضد الأحزاب والحزبية والسياسيين بالمطلق، فسرعان ما وجدت بين “حلف 25 جويلية” أحزاب كان لها تمثيلها في البرلمان، الذي قام بتجميده وإغلاق مقره ومعه متحف “باردو” الأهم في البلاد وحجب موقعه وأرشيفه الإليكتروني وصولا إلى حله. ومن أبرز هذه الأحزاب وفي مقدمتها حزب “حركة الشعب” العروبي الناصري بقيادة أمينه العام “زهير المغزاوي“. وهنا على موقع جريدة ” المشهد” حوار أجريته معه منشور بتاريخ 6 نوفمبر 2019.
وتعد الحركة والتيار الناصري بالعموم في تونس من بين المستفيدين من الثورة ومسار الانتقال للديمقراطية خلال العشرية التالية عليها . أصبح لهما العديد من المقرات الحزبية بطول البلاد وعرضها ووزراء في حكومات متعاقبة، وممثلين في مؤسسة البرلمان. وارتفع عدد نواب “حركة الشعب” من 2 بالمجلس التأسيسي (2011 ـ 2014) الذي وضع دستور الثورة. وعاد الحزب وبارك العدوان عليه وإلغاءه، ثم من 3 إلى 15 بين برلماني 2014 و 2019. وفي التشريعية الأخيرة حل رابعا بين الأحزاب الفائزة.
وبعدما كان قد راجع عناصر في الأيديولوجية الناصرية تمشيا مع تحولات الديمقراطية والحريات وإعادة الاعتبار “للبورقيبية” بعد الثورة، عاد حزب “حركة الشعب” مع 25 جويلية ليسترجع بقوة وصم الديمقراطية بالفاسدة ولينادي بـ “ديموقراطية اجتماعية وحقيقية”. وهكذا تراجع ليضع الديمقراطية الاجتماعية في تناقض وتناحر مع الديمقراطية البرلمانية. والحزب على صعيد السياسة الخارجية معروف بدعمه للرئيس السوري “بشار الأسد” ولنظامه وزعامته ضد الثورة في بلاده ، ويتخذ مواقف مماثلة تجاه العديد من المجتمعات العربية التي تعاني الاستبداد والفساد، معتبرا أن “الدفاع عن الدولة الوطنية والأمن القومي أولوية” تتقدم كل حقوق وحريات وديمقراطية.
ويظل الحزب داعما للرئيس “قيس سعيد” حتى بعد عزوف انتخابات 17 ديسمبر، وأصدر بيانا في 21 ديسمبر دعا فيه لاستيعاب الدرس، مختصرا أسباب الأزمة في إهمال الملف الاجتماعي الاقتصادي والتقصير في حماية مسار 25 جويلية والانفتاح على القوى الداعمة له. كما حمل حكومة ” نجلاء بو دن” المسئولية الأكبر. ومن المرجح أن تستمر “حركة الشعب” في خطها الداعم للرئيس “سعيد” وإجراءاته المترتبة على الدستور الجديد.
ولقد تجاهل البيان المشار إليه سلفا الإفصاح عن الحصاد الذي خرج به الحزب من جولة الانتخابات التشريعية 17 ديسمبر. ولكن وفق تقرير لوكالة “الأناضول” من تونس بتاريخ 21 ديسمبر 2022 تقول مصادر “حركة الشعب” بأنها حصدت مقعدا وحيدا من إجمالى 23 فائزا، ومازالت تراهن على حظوظ أربعين مرشحا من بين إجمالي 131 مقعدا في الدورة الثانية الحاسمة. إلا أن رئيس (الإيزي) المعينة عاد في مؤتمر صحفي يوم 27 ديسمبر 2022 ليقول أن لـ”حركة الشعب” 12 مرشحا من بين 22 أعلنوا انتماءهم لأحزاب يخوضون الجولة الثانية الحاسمة ومن إجمالي 262 مرشحا. وتوضح معطيات الهيئة هذه أن “حركة الشعب” هي الحزب الأول بالنسبة لعدد المرشحين في الجولة الثانية.
و”التيار الشعبي” الناصري أيضا
ثمة أيضا حزب عروبي ناصري “التيار الشعبي” برئاسة أمينه العام “محمد زهير حمدي” يؤيد ومازال مسار 25 جويلية. لكنه بالغ الهامشية ولم يكن له أي تمثيل في برلمان 2019، وإن كان يكتسب مكانته المعنوية من كونه حزب الشهيد ضحية الإرهاب والإغتيالات “محمد البراهمي”رحمه الله، ومن كونه يضم”مبروكة البراهمي / عوينية أرملته النائبة السابقة بكتلة ائتلاف “الجبهة الشعبية ” اليسارية في برلمان ( 14 ـ 2019).
وأصدر هذا الحزب بيانا في 20 ديسمبر 2022 عزا فيه العزوف عن الانتخابات التشريعية “لتعثر مسار المحاسبة عن العشرية السابقة وللإنهيار الاقتصادي الاجتماعي المعيشي لعموم التونسيين، ولغياب التشاركية وتهميش دور الأحزاب والتفرد بالرأي”. لكن البيان جدد تمسكه بمسار 25 جويلية مؤملا في ” الحسم النهائي مع ملف المحاسبة لكل من تورط في الاغتيالات والتسفير (مايتردد عن تورط النهضة وإسلاميين آخرين في إيفاد شباب تونسي “للجهاد” (في سورية والعراق وليبيا) والتمكين للإرهاب و كل رموز الفساد السياسي “.
تحولات حزب يساري بين حلف الرئيس والخروج عليه
ثالث أبرز القوى الحزبية التي كانت في السابق ضمن حلف الرئيس سعيد/ 25 جويلية هو حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد (الوطد) اليساري. وعلاوة على ما يتمتع به هذا الحزب من شرعية تاريخية منذ عهد الرئيس “بورقيبة”، فهو حزب الشهيد “شكري بلعيد”، والذي كان أمينه العام، و بما لاستشهاده في فبراير 2013 من رمزية مهمة في مواجهة حزب “حركة النهضة” . وهذا بصرف النظر عن صحة ومصداقية الإتهامات الموجهة لقيادة الحركة بالتورط في الاغتيال أو الحكم على إساءة توظيف هذا الإغتيال في خدمة الثورة المضادة وضرب الديمقراطية الوليدة بتونس. واللافت أن حزب “الوطد الموحد” لم يكن له وجود مهم في برلمان 2019 أو حكومات ما بعد الثورة.
ومن الواضح أن ” الوطد الموحد” ـ وكغيره من أحزاب مسار 25 جويلية ـ اعتقد أن الرئيس ” قيس سعيد” سيحسم اقصاء واستئصال “النهضة”، ويدفع إلى إدانة دامغة لقيادتها في إغتيال الشهيدين ” بلعيد” و” البراهمي” وغيرها من ملفات الإرهاب. ولقد مرر الحزب الإطاحة بالبرلمان ودستور الثورة والعديد من ممارسات الانتقاص من الحقوق والحريات. لكنه ربما أدرك بأن الرئيس “سعيد” يستخدم الملفات ضد ” النهضة” وفق حسابات تخصه هو، ويراعي اعتبارات داخلية واقليمية ودولية يبدو وكأنها تمنع من المضي في الشوط بحسم للنهاية وسريعا. وربما وصل إلى قناعة بأن الرئيس يستدعى هذه الملفات بين حين وآخر للتغطية على إنتهاك أو فشل ناجم عن سياساته.
واعتبارا من 23 يناير 2022 حدث التحول الأبرز في موقف “الوطد الموحد” من الرئيس “سعيد” منذ أن منحه تأييده في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية 13 أكتوبر 2019 ، وذلك حين أصدر الحزب بيانا اعتبر فيه أن “سلطة 25 جويلية فشلت في طرح بديل سياسي مجتمعي عن التحالف السياسي الذي نجحت في إزاحته عن السلطة” ، ومشيرا إلى ” شيطنة النضال الشعبي والحركات الاجتماعية والتحريض عليها”. ولاحقا دعا “الوطد الموحد” بدوره منفردا ودون الدخول في تحالف معارض إلى مقاطعة انتخابات 17 ديسمبر. وعاد بعدها بيومين، وأصدر بيانا في ختام دورة لجنته المركزية الثلاثين اعتبر فيه أن “السلطة القائمة تفتقد كل شرعية شعبية تدعيها أو مشروعية في مواصلة الحكم”. كما رفض ماوصفه بـ “البدائل الإخوانية والتجمعية المستنجدة بالسفارات والقوى الأجنبية للعودة للحكم”، في إشارة إلى كل من “النهضة” و “الدستوري الحر”.
لكن تحولات “الوطد الموحد” على هذا النحو، جرت عليه انشقاقا مهما من جانب أبرز قادته اعلاميا وبرلمانيا وفي الهجوم على قيادة “النهضة”، وذلك بعد فصل القيادي”منجي الرحوي” مطلع يونيو 2022 لمشاركته في الإعداد “الصوري” لدستور “قيس سعيد”. والأرجح أن يعاني الحزب من الانشقاق بين جناحين: واحد يقوده “زياد الأخضر” الأمين العام والنائب في برلمان (2014 ـ 2019) والثاني “الرحوي” النائب في برلمان 2019.
وعلى أي حال تستحق تجربة اليسار التونسي بمختلف تنظيماته ورموزه بعد الثورة مقالا خاصا خارج سياق هذه السلسلة ، وهذا لأن أزمة اليسار التونسي بتنظيماته وأحزابه وائتلافاته المتعددة وبأخطائه تعد بدورها جزءا أصيلا من أزمة تونس الراهنة، على الرغم مما أتيح له بعد الثورة التونسية من فرص تمثيل وحضور ومساحات حركة وحرية يندر أن توافرت لمثيله في المجتمعات العربية. ( يتبع )