عبد الله محمد عبدالله يكتب :أنامل ٌ لا تُخطئ

ظلّ ازهري يغالب دموعَه و قد أمسك بكفيه السياج الذي يعلو الحائط الشرقي في باحة قسم الموسيقى، رامياً بصره بعيداً كأنه يذرع الفضاء الذي يمتد إلي ما وراء شارع مدنى و بدايات حي اركويت.

بكى في صمت، ثم اتجه نحونا و قال، هامساً مختنقاً : يلّا يا اخواننا جيبوا العندكم عشان الشاب ده يسافر لأهله. و سرعان ما امتدت الأيدي بما استطاعت.

كان ذلك الشاب الذي ابتدر ازهري عبدالقادر مسعى مساعدته عاملاً بالبوفيه، و قد فوجئ بخبر وفاة والده في منطقة ما خارج العاصمة. نقل إلينا الشاب المفجوع النبأ وانزوى بعيداً فريسةً للحزن و ضيق ذات اليد، إلى أن اقتاده ازهري جانباُ ليدفع إليه بما اجتمع من مال.

كنا وقتها قد قطعنا أعواماً أربعة من سني دراستنا الخمسة، عرف فيها بعضنا بعضاً كأفضل ما يكون، فلم يكن بيننا من أدهشته تلك اللحظة الأزهرية. .. فأبو الزهور كان معروفاً بحساسيته الفائقة و مبادراته الإنسانية التى لا ينبئ مظهره بإقدامه عليها. فليس صوته المجلجل و لا مهازراته ومهاتراته مما قد يوحي بذلك.

( أزاري زول ) ذلك هو اسمه باللغة الكورية المسودنة. فإذا ما قال الأستاذ الكوري ( ازارى زول هنا أسد سوا سوا) أدركنا أن المستر كيم يعني أن ازهري يشبه الأسد الضرغام.

في عامنا الثاني أدينا صلاة الشكر لأن ازهري قد توقف عن دراسة الصوت، تلك المادة التي دفعه اليها مشتر أوشان دفعاً، فقد كانت لحظات مِرانه تهز المبني هزاً، مما جعل واكيكا، ملك الهدوء بلا منازع، يخاطبه قائلاً : شنو يا ازهري ياخ! . و تلك عبارة إذا اردنا تفسيرها استناداُ إلي قاموس معتصم واكيكا فلن تكفينا صفحة من حجم ال A4 أو اثنتان.

المهم. اغتبطنا عند هجره دروس الصوت ثم قلنا الله يخارجنا من بيانو أزهري الذي كنّا ضحايا كريشيندوهاته المتصاعدة المتلاحقة تحت انامله التي لا تخطئ، لكن تلك دعوة لم تُستجب الي حين مغادرتنا المعهد عام 1982.

كان ازهري صوتا أساسياً في الكورال، لخامةِ صوته الباريتونية و لأنه كان مغنياً مطبوعاً. ومن الغرائب أن قدوم أزهري لدراسة الموسيقي لم يكن إلا بعد حثٍ و تحفيزٍ من قريبه د. مصطفي نور الهدى الذي استمع مصادفةً إلي أزهري و هو يردّد ضمن طقوس استحمامه مقطعاً للأستاذ محمد الأمين:
بيني بينك شوق عمر
لا نام و لا مده انحسر.

فأدرك أن خلف ذلك الشَعث و الهذر و الغَبر فناناً لا ينبغي أن يُضيع موهبته في ما لا يفيد. خلاصة الأمر أن ازهري اجتاز امتحان القدرات الفنية، و صار فرداً ضمن دفعتنا، أول دفعةٍ تُقبل بشروط التعليم العالي في1977 بعد عام جُمٍّد فيه القبول، جرى خلاله إلغاء تبعية المعهد لوزارة الثقافة و الأعلام و ضمه إلى وزارة التعليم العالي.
و مع ان ازهري كان مغنياً ضنيناً، ألا اننا كلما اجتمعنا تحت قمر العمارات نستمع إلى بكري صاحب البوفيه وهو يتغني بنوادر الحقيبة من طراز ( النرجس يا مدلل و الاقحوان)، فوجئنا به و قد استولى على مهمة الكورس، متناسياً محاذيره الكابحة، ثم مضى يُسعد مساءنا بشئٍ من محمد ميرغني، محمد الأمين أو عثمان مصطفى.
نواصل.

عن وجه افريقيا