لم يكن السودان محظوظاً أو موفقاً في إنتاج قيادات قومية ملهمة بعد الاستقلال تلتف حولها الجماهير مقتنعة بمشروع قومي يهدف لنهضة البلد حديث الاستقلال. حظيت الهند بنهرو وتونس بالحبيب بورقيبة ولكن السودان كان منقسماً في ثنائية قاتلة لازمته حتى اليوم. وكان الانقسام بين الاتحاديين والاستقلاليين ولكل فئة الطائفية التي تحتضنها وتدعمها: الختمية والأنصار وجاءت أحزابها التي قادت الحركة الوطنية بلا برنامج قومي بل حشدت الجماهير تحت شعارات عاطفية خاوية من أي مضمون يدعو للوحدة الوطنية أو يبشر بالتنمية العادلة.
واكتفت تلك الاحزاب بشعار مثل: الاستقلال أو الموت الزؤوام مقابل عاشت وحدة وادي النيل تحت التاج المصري. وعجزت كل القوى السياسية المنتخبة شعبياً عن وضع دستور دائم للبلاد وظلت البلاد منذ الاستقلال تحكم بدستور مؤقت كما ان السودان عاش ثلاث فترات انتقالية وليست واحدة نهائية استهل السودانيون تقرير المصير بالعنف السياسي المبكر والذي لازم التطور السياسي حتى اليوم. ففي اغسطس 1955 كان التمرد في الجنوب وقبلها في أول مارس 1954 هاجم الأنصار موكب زيارة الرئيس المصري اللواء محمد نجيب. وبعد الاستقلال في أقل من شهرين كانت حوادث عنبر جودة في 19 فبراير 1956 في صدام دموي بين الشرطة والمزارعين العزل المطالبين بحقوقهم راح ضحيته أكثر من مائتي مزارع أو عشرون دستة من البشر كما دعاهم الشاعر صلاح أحمد إبراهيم.
كانت الطائفية تدرك تماماً أنها صاحبة الأغلبية بين بسطاء الشعب السوداني ولكنها قبلت تكتيكياً التحالف مع الخريجين في فترة فجر الاستقلال. بدأت الخلافات وصراع القوى داخل الحزب الوطني الاتحادي الأقل محافظة من (حزب الأمة). وكان أول اختبار لحكومة الأزهري ولتحديد ميزان القوى عندما طرح صوت ثقة في حكومة الأزهري الأولى في 10 /11 /1955 وتم اسقاط الحكومة وبمنتهى الاستهتار أعيد انتخابه في 15 /11 /1955 فقد تحول ثلاثة نواب من حزبه مرة إلى المعارضة ثم عادوا خلال أيام إلى تأييده نتيجة التصويت كانت (45/49). ويكتب محمد أبو القاسم حاج حمد: ” لم يكن الانذار كافياً فيما يبدو غير أنه أوضح للسيد علي موازين القوى بينه وبين الاتحاديين. فكان لقاء السيدين في أكتوبر 1955 تمهيداً لحكومة ائتلافية في 2/12 / 1955″ (كتاب السودان المازق التاريخي وآفاق المستقبل- الطبعة الثانية 1996- ص144) وسماه “ائتلاف النقيضين- الختمية والأنصار، ولكنه الوضع الصحيح فقد تلاقت مصالح الطائفية وحاول بعض الاتحاديين الفكاك نهائياً من قبضة الطائفية أو كما قال يحيى الفضلي: ” مصرع القداسة على اعتاب السياسة) ولكنهم عادوا إلى بيت الطاعة بعد حين لتستمر دورة ديكتاتورية الطائفية تعقبها ديكتاتورية العسكر طوال تاريخ السودان السياسي الحديث.
تجسد غياب المشروع القومي وتهافت القيادة حين قام رئيس الوزراء المنتخب بتسليم السلطة للجيش في 17 /11 /1958م بعد أقل من ثلاث سنوات من الاستقلال ليدشن الاستعمار الجديد الذي نرزح تحت وطأته حتى اليوم.
وعلى الضفة الأخرى عجزت القوى الحديثة عن إدارة معركتها السياسية والفكرية بكفاءة واقتدار. فكانت الأحزاب العقائدية – الأخوان والشيوعيون والقوميون- مجرد صدى باهت لأيديولوجيات عابرة للقطرية، وغير مرتبطة بتحليل الواقع وايجاد الحلول العملية للمشكلات المحلية فقد ظلت تحلم بالأممية أو الامة الاسلامية أو أمة عربية واحد ذات رسالة خالدة. واخفقت القوى الحديثة تماماً في توحيد مكوناتها أو المبادرة بطرح مشروع وطني يمثل الحد الادنى للرؤى المتباينة وغرقت في مستنقع الخلافات الثانوية وأحلام العصافير.
لا أدري هل تعي القوى الحديثة تحديات المرحلة الانتقالية الحالية وتعتبرها الفرصة الأخيرة لها وللوطن للالتفاف حول مشروع وطني شامل يحقق الوحدة الوطنية والتنمية العادلة والسلام الدائم وليس سلام المحاصصة والمسارات؟.
المفكر حيدر ابراهيم