هناك معركة جارية في مصر الآن عنوانها “الست”، تدور حول صورة المطربة الراحلة أم كلثوم. المصريون منقسمون حول فيلم جديد، ويطال الانقسام أهداف القائمين عليه، وغاية المموّل.
الفيلم من بطولة الممثلة منى زكي وتجسد فيه شخصية “كوكب الشرق”، وهو من تأليف أحمد مراد، وإخراج مروان حامد.
ما يجري حول فيلم “الست” ليس خلافا فنيا عابرا، إنما صراع على الرموز، وعلى من يملك حق تمثيل الذاكرة المصرية الحديثة.
نحن أمام معركة ثقافية كاملة، فحين تُستدعى أم كلثوم إلى عمل فني جديد، لا تحضر بصفتها مطربة من الماضي، بل بوصفها أحد أعمدة الهوية الرمزية لمصر الحديثة، وصوتا تشكّلت حوله سرديات الدولة والوجدان العام.
المصريون حساسون جدا تجاه رموزهم، وفي الوعي الجمعي المصري، لا تصنف أم كلثوم كفنانة فحسب؛ إنها “صوت الدولة” في مرحلة ما بعد الاستعمار، ورمز الوحدة في زمن جمال عبد الناصر، وهي ما يمكن تسميته بـ “الملكية العامة الوجدانية”.
كل مصري يعتقد أن له “حتة” في هذه السيدة، فهي في الوجدان الشعبي تكافئ الأهرامات.
وهذه المكانة تجعل أي اقتراب فني منها خاضعا لشروط صارمة لا تقيس الجماليات بقدر ما تقيس الملاءمة السيادية، وهنا تثور أسئلة عدة حول إذا ما كان الفيلم يليق بجلال الرمز؟ وهل يحترم “الهالة” المحيطة بصاحبة “الأطلال”؟ وهل يقترب منها بهدف القراءة أم “التدنيس”؟
بالنسبة للرافضين، فإن أم كلثوم رمز لا يجوز تفكيكه أو تأنيسه؛ فإخضاعها لقراءة معاصرة تجردها من مقامها العالي، يعدّ في نظرهم تبديدا لرأس مال وطني غير قابل للمس.
وعلاوة على ذلك، يتجاوز الخلاف حدود الجودة الفنية ليغوص في عمق زاوية الرؤية؛ وهنا يتجلى الانقسام بين فريقين، الأول يخشى “نزع القداسة” عن الثوابت الوطنية، والفريق الثاني يرى في العمل تحريرا للسردية من قيد “التبجيل المتحجر”.
إنه الصراع الأزلي بين الذاكرة الرسمية الصارمة والقراءة النقدية المعاصرة التي تسعى لضخ دماء جديدة في عروق الرمز.
القضية الأعوص ربما أيضا في هذا السياق هو دخول التمويل (خاصة غير الحكومي أو العابر للحدود)، والذي أضاف للجدل بعدا سياسيا وقوميا.
ففي مجتمعات عانت طويلا مما يمكن تسميته “النهب الرمزي”، يصبح سؤال المموّل سؤالا عن السيادة الثقافية.
معركة «الست» في جوهرها صراع بين ثقافة الحراسة التي تذود عن الرمز وتصونه من التغيير، وثقافة التأويل التي تسعى لاستدامته عبر التجديد.
وكلا الرؤيتين، في الحالة المصرية، تحملان وجاهتهما وجراحهما الخاصة، بانتظار ما ستسفر عنه الشاشة في نهاية المطاف.
وهذا يقودنا إلى سؤال حول كفاءة أصحاب الرؤى الجديدة في الفيلم.
تبدو مفارقة اختيار أحمد مراد لكتابة فيلم عن أم كلثوم كاشفة بحد ذاتها.
فمراد، مهما حقق من رواج في عوالم الغرائبي والهلوسي والانفصال عن الواقع، لم يُظهر يوما امتلاك خامة فكرية أو حساسية تاريخية تمكّنه من مقاربة شخصية بحجم «الست»، ليس بوصفها أيقونة فنية فحسب، وإنما أيضا بوصفها عقدة وجدانية في الوعي المصري. ولننظر إلى تصريح المؤلف بأن العمل على فيلم عن «رسول» كان سيكون أسهل من العمل على أم كلثوم، ذلك التصريح ليس زلّة لسان، بل مؤشر على نزق فكري وقلة إدراك لطبيعة الرمز الذي يتصدى له، وينذر بمقاربة سطحية لا تحتمل ثقل الشخصية ولا تعقيد حضورها.
أما اختيار منى زكي، فيصطدم بعائقين متلازمين، الأولى هي صورة ذهنية لم تُغلق بعد في الوعي العام حين خلعت السروال في فيلم إيطالي معرب، والثانية تجربة سابقة غير موفّقة في تجسيد الشخصيات العامة، كما في مسلسل «السندريلا»، حيث غابت القدرة على النفاذ إلى الجوهر لصالح محاكاة خارجية باهتة.
موهبتها، مهما كانت محترمة في سياقات معينة، لم تُثبت قدرتها على حمل شخصية تأسيسية بهذا الحجم، والتي تحتاج ممثلة استثنائية لا تؤدي الدور، بل تسكنه.
وإذا كان السيناريو هو العمود الفقري لأي عمل من هذا النوع، فإن الإخراج لا يقل خطورة حين يتعلق الأمر برمز بحجم أم كلثوم.
مروان حامد مخرج محترف بلا شك، ويمتلك أدوات تقنية عالية وخبرة واضحة في إدارة الإنتاجات الكبرى، لكنه ظلّ طوال مسيرته أسير سينما الصنعة المتقنة أكثر من كونه صاحب رؤية ثقافية أو تاريخية عميقة.
أفلام حامد، في معظمها، ناجحة بصريا ومنضبطة إيقاعيا، لكنها نادرا ما اشتبكت مع سؤال الذاكرة أو مع الشخصيات بوصفها كائنات مركّبة تنتمي إلى سياق اجتماعي وسياسي كثيف.
إخراج فيلم عن أم كلثوم لا يحتاج مخرجا يعرف كيف يدير الكادر فقط، بل مخرجا قادرا على استنطاق التجربة، وفهم العلاقة المعقّدة بين الصوت والسلطة، وبين الجسد والرمز، وبين المرأة والدولة.
هذا النوع من الحساسية لا يبدو حاضرا بوضوح في تجربة حامد السابقة، وهو ما أثار القلق من أن العمل سيرة مصقولة بصريا، لكن فقيرة روحيا، وقد رأى كثيرون أن الفيلم عجز عن النفاذ إلى الجوهر.
يمكن للسينما، بلا شك، أن تُقدّم البطل الأسطوري بوصفه إنسانا من لحم ودم، لكن ذلك يتطلب طاقما يمتلك حساسية معرفية وجمالية عالية. فالكتابة الإنسانية ليست شجاعة في الاقتراب فقط، بل احتراف في الفهم، ودقّة في الإمساك بالتاريخ دون تسطيح أو استسهال. وهو ما لا توحي به الخيارات المعلنة وردود الجمهور الخارج من صالات العرض.
وجه أفريقيا رئيس التحرير: سحر رجب