وجدي عبد العزيز
جاء قرار الحكومة الفرنسية بتعليق مساعداتها التنموية والمتعلقة بدعم الميزانية المخصصة لدولة بوركينا فاسو ليزيد من شعبية النقيب إبراهيم تراوري البالغ من العمر 35 عاما والذي تمكن من أحكام قبضته على بوركينا فاسو خلال العام الماضي، ويأتي ذلك على خليفة تأييده لإنقلاب النيجر المعادي للسيطرة والنفوذ الفرنسي على منطقة غرب أفريقيا ودول الساحل جنوبي الصحراء الكبرى،ورفضه التدخل العسكري لإعادة الرئيس محمد بازوم رئيس النيجر المحتجز حاليا في القصر الرئاسي.
وكانت كلمات تراوري النارية المعادية للإستعمار والنفوذ الفرنسي المستبب في نهب ثروات البلاد الأفريقية خلال افتتاح القمة الروسية الأفريقية في سان بطرسبرج في نهاية الشهر الماضي سببا آخر في خطف أنظار وعقول وقلوب الكثيرين من الشباب الأفارقة الذين اعتبروه امتدادا لقادة حركة الاستقلال الأفريقي مثل الرئيس جمال عبد الناصر والغاني كوامي نكروما وغيرهما من القادة الذين طالبوا باستقلال وتحرير أفريقيا من نير الإستعمار الأوروبي في ستينيات القرن الماضي، وفي هذا التقرير سوف نلقي الضوء على إبراهيم تراوري هذا القائد الأفريقي الشاب الذي يطيح بالنفوذ الفرنسي في القارة ويستكمل مسيرة الأباء المؤسسين للوحدة الأفريقية.
الأمل في التغيير
ولد تراوري عام 1988، أي أنه يبلغ من العمر 35 عاما، ما يجعله أصغر زعيم دولة في أفريقيا، ويضعه في مصاف قائدَي الانقلاب الآخريَن في أفريقيا حاليا، الزعيم الغيني الكارزمي الكولونيل مامادي دومبويا الذي ولد عام 1981، وزعيم مالي الكولونيل أسيمي غويتا المولود في عام 1983.
ويمثل تراوري جيلا جديدا من القادة الانقلابيين في أفريقيا، فهو على خلاف العديد من القادة الأفارقة الانقلابيين لم يُظهر أي رغبة في الاستمرار في السلطة بعد انقلابه، حيث أعلن أنه سيقوم فقط بتسيير المرحلة الانتقالية إلى حين تسليم السلطة، وقد اشتملت خارطة الطريق التي أطلقها على إجراء حوار وطني بعد انقلابه وأكد على ألا يُسمح له بالترشح، بل إنه كان يقول لوزرائه صراحة إنه يعلم أنه أصغرهم سنا، لكن الظروف حتمت هذا الموقف، ووفق الخطة فمن المفترض أن يقوم إبراهيم بتسليم السلطة في يوليو 2024، وكان قد رفض قبول راتب رئيس الدولة واكتفى براتبه في الجيش.
واستطاع تراوري بسبب عوامل شخصية وأخرى موضوعية أن يكسب الشارع من اليوم الأول لانقلابه وفق ما ظهر من أخبار متتالية، إذ أوضح تأييدا لفكرة أصبحت ذات قبول كبير في البلاد، وهي الوحدة الأفريقية وربط اسمه بها، وبجانب الشارع حصل تراوري على تأييد الأحزاب السياسية في البلاد، التي تراوحت مواقف أغلبها بين تأييده صراحة وبين الموافقة في صمت على تحركاته، أو عدم معارضته على أقل تقدير.
وكان النقيب تراوري قد اكتسب خبرته العسكرية الأولى من خلال محاربة الجهاديين في مالي، حيث كان يخدم ضمن قوة الأمم المتحدة هناك، ويقال إنه “أبدى شجاعة” في مواجهة “هجوم معقد” شنه المسلحون عام 2018 في منطقة تمبوكتو التي تشتهر بمبانيها ومساجدها التاريخية.
لكن النقيب تراوري ليس جنرال حرب يحمل أوسمة عسكرية، لكنه فقط ضابط برتبة نقيب درس في أكاديمية عسكرية محلية والتحق بالجيش في عام 2009، وتلقى تدريبات في سلاح المدفعية بالمغرب، واختار المجال العسكري بعد أن أكمل دراسته في مجال الجولوجيا بمدينة بوبو-ديولاسو، ثاني أكبر مدن بوركينا فاسو، ووصفته بعض التقارير بأنه كان تلميذا “خجولا ومتحفظا إلى حد ما”، ولكن في الوقت نفسه”ذكيا للغاية”.
والآن، يجد النقيب إبراهيم تراوري نفسه في مركز اهتمام دولي، ولا سيما بعد أن ذهب البعض إلى حد تشبيهه بزعيم بوركينا فاسو الثوري توماس سانكارا الذي حكم البلاد خلال الفترة من 1983 حتى 1987واغتيل في مكتبه بتشجيع فرنسي، وتأمل الجماهير في بوركينا فاسو أن يكون تراوري منقذا لبلادهم بعد عقود من سوء الحكم، ويعتبر الكثيرين أن تولى إبراهيم تراوري زعامة البلاد، مثل توماس سانكارا، بعد انقلاب عسكري مثله، وهو كان نقيب بالجيش مثله، ويبلغ من العمر 34 عاما مثله أيضا، وكان من أشد منتقدي السياسة الفرنسية الإستعمارية في القارة الأفريقية ودعا أيضا مثله لتوحيد دول القارة لمواجهة النفوذ الاستعماري وحل قضايا القارة الدائمة مثل تراكم الديون والفقر والأمراض، لذلك فقد استقبل تراوري استقبالا شعبيا هائلا عند عودته من روسيا.
إنهاء الهيمنة الفرنسية
اتخذ تراوري خلال العام الذي حكم فيه خطوات جريئة للفكاك من “الهيمنة الغربية” والإقتراب أكثر من روسيا، كان أهمها طرد القوات الفرنسية من بلاده، بعد أن قررت بوركينا فاسو من جانب واحد وقف العمل باتفاق المساعدة العسكرية الذي وقعته مع فرنسا بعد حصولها علي الاستقلال عام 1961حين كانت البلاد تحمل اسم “فولتا العليا” وهو اتفاق كان يسمح لفرنسا بعد نهاية حقبة استعمار البلد بالإبقاء علي قواتها العسكرية للدولة الناشئة، وأعطت وزارة الخارجية البوركينية الفرنسيين مهلة شهر للانسحاب، والخطوة التالية كانت حظر إذاعة فرنسا الدولية ، وقدم مقترحا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإنشاء محطة طاقة نووية في بوركينا فاسو لسد الإحتياجات الكهربائية، ودعم علنا فكرة إنشاء عالم متعدد الأقطاب، هذا فضلا عن تقوية علاقات بلاده مع إيران وإعادة فتح السفارة البوركينابية في طهران، والإعلان الرسمي عن دعم الصين والإلتزام بمبدأ “الصين الواحدة”.
وتشترك هذه السياسات جميعا في كونها “مناهضة للغرب” بشكل عام، ويمكن فهمها ضمن إطار واحد هو السعي لوحدة أفريقية في مواجهة الهيمنة الغربية، وهو الأمر الذي ربطه تراوري باسمه منذ الأسابيع الأولى لحكمه، فمنذ صعوده إلى سُدة الحكم، وأصبح مصطلح “الولايات المتحدة الأفريقية” رائجا في شوارع بوركينا فاسو، حيث دعم قادة الانقلاب الجديد بقوة فكرة إنشاء “اتحاد فيدرالي للدول الأفريقية”، خاصة أن الجمهور ذا الهوى الوحدوي الأفريقي يعتبر من الدعائم الرئيسية لشعبية تراوري في بوركينا فاسو.
وقد بدأ تراوري في اتخاذ خطوات واضحة لتحقيق هذا الحلم، بداية من زيارات رئيس الوزراء كيليم دي تامبيلا لمالي وطلبه من السلطات المالية الإسراع في البدء بمشروع الوحدة الأفريقية، إذ بات الاتحاد مع مالي وغينيا مبدئيا حلما تُتخذ خطوات بوركينابية جدية فيه، حيث ترى واجادوغو أن أفريقيا المقسمة هشة وسهلة الاستغلال ولا سبيل لمواجهة تحدياتها إلا من خلال اتحادها.
ومن ناجية أخرى كانت القوات الفرنسية مستقرة في قواعدها بالبلاد ولكنها فشلت على مدار السنوات السابقة في القضاء على الجماعات المسلحة التي تسببت هجماتها في نزوح مليونَيْ بوركينابي، وقد وصلت مشاعر الكراهية تجاه باريس داخل بوركينا فاسو إلى ذروتها مع هذا الفشل العسكري، فقد شكَّلت فرنسا في نظر الشعب البوركينابي مجرد دولة استعمارية استغلَّت أفريقيا وأفقرتها لعقود طويلة، مع محافظتها على نفوذها داخل القارة رغم انسحابها العسكري منها بعيد سنوات الاستعمار. ليس هذا وحسب، بل انتشرت في بوركينا فاسو نظريات تقول إن فرنسا هي أصلا مَن تصنع الإرهاب وتدعمه في الساحل كي تحافظ على نفوذها هناك، كما لم ينس الجيل البوركينابي الحالي دعم باريس للدكتاتور “بليز كومباوري” الذي حكم البلاد بعد انقلاب دموي على زعيمها الثوري اليساري “توماس سانكارا” في عام 1987 حتى أطاح به الشعب في عام 2014.