الفنان السوداني عبدالله محمد يكتب :عن الفاتح الطاهر دياب

في اليوم الثالث من يونيو في العام 1936 كان مولد أستاذنا الكبير بروف الفاتح الطاهر دياب بحي الركابية بأمدرمان. اليوم، في ذكرى مولده و مجرى استعادة سيرته الملهمة أحكي: هكذا كان الفاتح الطاهر.

اتصل بي دكتور الفاتح الطاهر ذات مرة ٍخلال إقامتي في مدينة لننجراد الروسية ( سانت بطرسبيرج حالياً) مطلع التسعينات، و حددنا موعداً التقينا فيه بوسط المدينة. طلب البروف مني ساعتها أن نأتي، خالدة الجنيد و انا، لمرافقته في برنامج يقام بمعهد الثقافة في مساءٍ قادم، و هو المعهد الذي تلقّى فيه دراساته العليا، وافقت بالطبع بلا تردّد، فمن منّا يردُّ طلباً لأستاذه الكبير ؟

حالت ظروف الأستاذة خالدة الجنيد دون مرافقتنا حين أتى الدكتور ليقلّنا بسيارته، و في الطريق سألته عن البرنامج، فقال بعد صمت ٍ قصير إنه حفلٌ صغيرٌ يقام ترحيباً به من قبل زميلاته و زملائه في الدراسة، و عند اقترابنا من بوابة المعهد شهدتُ صفاً من نساء متأنقات يحملن باقات الورد، و رجالاً في كامل زيهم الرسمي و قد اصطفوا على طول بساطٍ أحمرٍ زاهٍ، جاء نحو العربة مَن رحّب بنا و قادنا إلى ذلك البساط وسط التحايا البهيجة و المصافحات و عبارات الترحيب التي أخجلت الفاتح، فكان يقابلها بالابتسام و الردود المتعجلة.

انتهى بنا ذلك البساط الأحمر إلى قاعة اعترض مدخلَها شريطٌ احتفاليٌ طُلب من دكتور الفاتح أن يقصَّه، ففعل وسط قعقعة الكاميرات و التصفيق، فوجئتُ باحتواء تلك القاعة على معرض ٍ للصور الفوتوغرافية كان محوره الفاتح الطاهر، بادياً في مراحل مختلفة من حياته و سط أفراد من رفاق الدراسة و رفيقاته و هيئات التدريس في مناسبات تباينت بين الاجتماعي و الرسمي، ثم ولجنا إلى حفل كوكتيل كان نجمه هو المحتفى به، تبادل فيه الحضور الأحاديث و الأنخاب و تجمعوا للصور التذكارية.

ظننتُ ان ذلك هو ختام البرنامج، و لكن هيهات!! فقد انتقل الجمع إلى قاعة مسرح أُجلسنا فيها بمنتصف الصف الأمامي الذي احتله عميد المعهد و ضيوفه و رؤساء الشعب.

ألقى العميد في تلك الامسية خطاباً مؤثراً أشاد فيه بالفاتح الذي قال إنه ظل طوال دراسته متفوقاً، ليس اكاديمياً فحسب بل اجتماعياً و إنسانياً و إنه مثّل حضارة وطنه و شعبه بتفوق ايضاً، و قال انه ليس من دليل على شعبية الفاتح يفوق احتفاظ زميلاته و زملائه بكل تلك الصور التى ضمها المعرض الذي شهدنا افتتاحه، جاء حديث العميد بعد كلماتٍ من زميلات الفاتح و زملائه في شتي الأعوام، ثم اعتلى المسرح من قال إن طلاب و طالبات شعبة الاكورديون ( التى انتمى اليها الفاتح طالباً من قبل) سيقدمون بعض مدوّنات و مؤلّفات الفاتح الطاهر التي أعدّها خلال سنيين دراسته بالمعهد.

ثم رُفع الستار عن صفوف ٍ من عازفات و عازفي الاكورديون، أفصح مقدم البرنامج عن عددهم الذي فاق العشرين! أطرق الفاتح و أزاح نظارتة ليمسح دموعه التي اتصل مسيلُها طوال العرض، بينما استمر تقديم المقطوعات التي كان بعضها تطبيقاً علي أساليب معينة للعزف أو سلالم موسيقية بعينها، بينما كان من بينها ما هو تنويتٌ و توزيع ٌ لبعض الأغاني السودانية الشعبية و الحديثة، مما قوبل بالتصفيق من الحضور.

و قبل ان ينتهي الكونسيرت دُعي  الدكتور الفاتح إلى المنصة فتحدث باختصار شاكراً من درّسوه و من درس معهم من الجنسين بينما بدأت الفرقة الموسيقية في اداء مقطوعة عزة في هواك من توزيع د. الفاتح الطاهر بمصاحبة عازف ٍ منفرد ٍ على الكمنجة،كانت تلك من اللحظات التي لا تُنسى، و التي استدعى معها، كلما طافت بذهني، شريطاً طويلاً من مناقب أستاذنا الراحل و لحظات تجلّي فرادته و عبقريته الاجتماعية و الأكاديمية و الفنية، ليت الوقت يسمح بالكتابة عنها. فقد كان د. الفاتح نسيج وحده في طاقته الإبداعية و رقته و هدوئه،  وفي كرمه الذي تجلي في تلك الولائم التي يدعو اليها زملاءه و طلابه و طالباته في داره الرحبة.

عازف موسيقي ومثقف سوداني

عن وجه افريقيا